القنيطرة... محافظة منسية على مرمى وطن من دمشق
Arab
1 week ago
share

فشلت المساعي في تنظيم زيارة إلى مدينة القنيطرة بالطرق الرسمية. السبب غير واضح. لكن يبدو أن المسألة ليست على جدول أعمال الدولة السورية من الناحية الإعلامية في هذا الوقت. وربما هي لا تجد ما يستدعي هذا الأمر. غير أنها لا تمانع في أن يستقل المواطن وسيلة مواصلات ويذهب نحو المحافظة القريبة من العاصمة، ولن يجد من يعترض سبيله، أو يطرح عليه السؤال، أو يراقب ما يسجله من انطباعات.

كانت زيارة السوريين إلى القنيطرة تخضع لإجراءات أمنية محسوبة جداً، فهي ليست مفتوحة لكل زائر، رغم أنها منطقة سياحية بامتياز، وتقع على مسافة قريبة من العاصمة ومحافظتي درعا والسويداء. والسبب في ذلك، يعود إلى الوضع الخاص الذي شهدته المدينة بعد احتلالها من دون قتال في حرب 5 يونيو/حزيران 1967، ومن ثم استردادها في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وإعادة احتلال جزء منها، ومن ثم اتفاقية فصل القوات في 1974، ونشر القوات الدولية في المناطق الحدودية بينها وبين هضبة الجولان.

توغلات إسرائيلية في محافظة القنيطرة

عادت محافظة القنيطرة إلى الأضواء بعد سقوط النظام، حيث باشرت إسرائيل بعمليات توغل في بعض قراها، واحتلت أجزاء جديدة من جبل الشيخ، وقرية الحضر، واخترقت حدود منطقة فصل القوات، بعد أن قامت بعمليات قصف استهدفت بعض القدرات العسكرية في محيط العاصمة، ومارست عمليات توغل داخل قرية بيت جن في 11 الشهر الماضي، وقتلت مواطناً واختطفت سبعة آخرين.


ثمة مساحات مفتوحة على امتداد عشرات الكيلومترات لا يوجد فيها عسكري واحد


تكتسي الزيارة في هذا الظرف أهمية خاصة، على ضوء التطورات التي حصلت في الأشهر الأخيرة، لكنها ينبغي أن تلتزم بحدود يجد الزائر أنها مرسومة أمامه مسبقاً من دون أن يحددها له أحد، وهي واضحة من نقطة الانطلاق من دمشق حتى مركز المدينة الذي كان يسمى "مدينة البعث" سابقاً. ومن اللافت أن السوريين الذين يتجاوزون الحدود بين القنيطرة ودمشق، يدركون كل التفاصيل والخصوصيات المتعلقة بالمحافظة، والفروق بين وضعها في ظل النظام السابق، وما تعيشه اليوم.

لم يسأل سائق سيارة الأجرة عن سبب الرحلة. بل تشجع لذلك، ويقول إنه يريد هو الآخر أن يزور المنطقة، التي لم يفكر بالذهاب إليها منذ آخر زيارة لها قبل عشرة أعوام، حينما اصطحب زوجته لتلد في المشفى هناك، بسبب الازدحام في دمشق، والمبلغ العالي للرشاوى الذي على المواطن أن يدفعه ليحظى بسرير في مشفى حكومي في العاصمة لمدة ليلة واحدة. ويضيف أنه لو لم يكن واثقاً من أن الطريق سالكة وآمنة في الاتجاهين لما وافق أن ينقلنا ويتجول معنا هناك.

انطلقنا من وسط دمشق في الساعة السابعة صباحاً، كي نتلافى حرارة الطقس وزحمة السير، وسلكنا الطريق نحو حي المزة. يقودنا السائق بالاعتماد على نظام "جي بي إس" في هاتفه الجوال، كي لا يرتكب خطأ فيذهب نحو منطقة قطنا أو محافظة درعا، نتيجة تشابه العمران، وحركة السير السريعة، التي لا تتيح وقتاً أمامه لتعديل سيره، خاصة وأن الإشارات الإرشادية المعتمدة في الطرق العامة شبه غائبة، أو غير ظاهرة للعيان بما فيه الكفاية. ما إن تجاوزنا حي المزة، حتى دخلنا "أوتوستراد الأربعين"، ولاحت على يمين الطريق مبانٍ ذات ملامح سوفييتية من طابقين. إنها مساكن ضباط النظام السابق. بعضها يبدو مهجوراً، لكن بواباتها الخارجية لا تزال محروسة بالأمن. لا أحد يعرف هل آلت إلى عسكر الحكم الجديد، أم أنها لا تزال مسكونة من قبل بعض شاغليها القدامى، الذين لم يهربوا ليلة سقوط النظام. وما يلفت الانتباه هو أن أحد المداخل تعلوه لافتة قوسية تحمل كتابة "قائدنا للأبد حافظ"، فيما تبدو كلمة الأسد ممحوة.

تتلو منازل الضباط بنايات عديدة تتوغل في العمق نحو المناطق السهلية الممتدة نحو السلاسل الجبلية. تتكون كل واحدة من عدة أدوار، وتحتوي على أكثر من مائة شقة، لكنها غير جاهزة، تبدو في طورها الأخير ينقصها الطلاء الخارجي، والنوافذ والأبواب. يقول السائق إن هذه الأبنية هدية من السماء للإدارة الجديدة، التي ستستفيد منها لإسكان عسكرها وكادرها، الذي انتقل معها من محافظات أخرى، على غرار ما حصل في المناطق الأخرى، حيث آلت كمية كبيرة من المنازل التي كان يشغلها مسؤولو النظام السابق وعسكره ورجال أمنه، إلى جهاز الإدارة الجديدة.

على الطرف الأيسر من الطريق تقع مدينة المعضمية ذات الصيت، الذي علا بقوة في بدايات الثورة السورية، وتحدها من الطرف الآخر مدينة داريا. ولكل منهما قصة طويلة مع النظام السابق، فكلاهما انتفض في الأيام الأولى للثورة، وكان مصير داريا التدمير الكامل، في حين أن المعضمية تعرضت لتدمير جزئي بسبب سكن جزء من حاضنة النظام السابق وعساكره في مبانٍ بناها على جزء من أراضيها ابن خالة بشار الأسد، ذو الهمة شاليش، ما ولّد نزاعاً مفتوحاً بين النظام وأهل المنطقة، الذين رفضوا التسليم بمصادرة أراضيهم بطرق ملتوية قائمة على الترهيب تحت ذريعة الشأن السيادي.

بعد أن اجتزنا المعضمية بقليل ونحن ندخل الى جديدة عرطوز وقريباً من مول "شمس القمر"، يطالعنا قوس كبير بشعار حزب البعث: "أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة -وحدة حرية اشتراكية"، يمر من تحته البشر والحافلات، ولا أحد يكترث. تتحرك الجموع باندفاع شديد باحثة عن قوت يومها، تاركة خلفها الوحدة والحرية والاشتراكية والأمة العربية ورسالتها الخالدة التي تاجر بها نظام الأسدين، من أجل نهب البلد وتركها تسير على طرقات مليئة بالحفر والمطبات، حتى ليظن المسافر نفسه في قرية نائية، لا في عاصمة عريقة مثل دمشق.

ومن بلدة جديدة الفضل، حيث يكثر البناء المخالف الذي قام به عسكر النظام، وعند مفرق مدينة قطنا، يبدأ جبل الشيخ بالظهور، عالياً، مهيباً، يزهو بلونه الرصاصي، تحت أشعة الشمس اللاهبة وسط غلالة من ضباب خفيف في الأعالي، حيث تلمع في ذراه كتل من ثلج باقية من فصل الشتاء، وعلى اليسار لافتة كبيرة "مزرعة الشيخ محمد الجاسم"، أولى المزارع ذات الملكيات الخاصة، التي ستتكرر كلما اقتربنا من حدود محافظة القنيطرة في علامة على خصوبة المنطقة وتربتها الغنية.

تحصينات عسكرية مدمرة

على جانبي الطريق تبدو تحصينات عسكرية مدمرة من جراء قصف سابق، لم يهتم أحد برفعها، مرسوم عليها علم النظام السابق. وتبدو المنطقة خالية من كل وجود عسكري في الوقت الراهن. وحسب السائق، هكذا كان الأمر قبل سقوط النظام. وبعدها بقليل يطالعنا أول حاجز للأمن العام قرب معمل القدس للبلاط، لا يوقفنا ويكتفي بالإشارة كي نكمل طريقنا. يقول السائق إن حواجز النظام السابق كانت تفتش المركبات التي تقصد القنيطرة ولا تهتم بالعائدة منها إلى دمشق. ويعود السبب في ذلك إلى الحرص على عدم تسرب أسلحة ومسلحين إلى المنطقة بشكل عام. اللافت أن هناك عدة آليات ضخمة ذاهبة نحو محافظة القنيطرة من تلك المخصصة لنقل الدبابات. وحسب شهود من أهل القرى في المنطقة، فإنه يجري إخلاء أسلحة مدمرة، ويرجحون أنها تعود إلى النظام القديم، ويمكن الاستفادة منها خردةً في معامل الحديد لتحويلها إلى استخدامات أخرى.

بعد منطقة الجديدة تخف حركة السير، ويتغير العمران كلياً. هناك سيارات مدنية عائدة في الاتجاه المعاكس نحو دمشق، ركابها بملابس الجيش، ومن ثم نصل إلى بلدتي كناكر والكسوة. وعلى جانب الطريق، بعد عدة كيلومترات، إشارة إلى أن المنطقة في العمق البعيد نسبياً اسمها خان أرنبة، وهي بلدة كبيرة احتلتها إسرائيل في 1967، وعادت لسورية بعد 1974، وهي تتعرض لعمليات توغل وقصف إسرائيلي منذ سقوط النظام. بدأ المشهد يختلف كلياً، القنيطرة على بعد 30 كيلومتراً، يصبح الطريق في اتجاه واحد، وتتراجع أعداد أشجار الكينا المنتشرة بكثافة من دمشق إلى خان أرنبة، وبدأت تخلي مكانها للأشجار المثمرة، التين، العنب، اللوز، المشمش، الزيتون المزروع بكثافة، كما تنتشر في المنطقة مزارع الخضار والقمح والحمص والشعير الممتدة على جانبي الطريق والمروية بنظام الري الحديث.


هناك حالة من التوتر والخوف في القنيطرة من التوغلات الإسرائيلية المتكررة


حاجز عسكري يقف عليه شابان من الأمن العام، ومن بعيد تلوح حقول قمح خضراء، وعلى بعد حوالى 20 كيلومتراً جبل الشيخ. عارضة حديدية خضراء، مكتوب عليها هنا سعسع، ومفرق بيت جن. ومن دون مقدمات يتوقف السائق الذي بدأ يتصرف على أساس أننا بدأنا نقترب من المناطق الحساسة. توقفنا قليلاً، والتقطنا أكثر من صورة، ونحن نردد ذلك البيت الشهير من قصيدة نزار قباني "من شرم الشيخ إلى سعسع"، التي هجا فيها النظام السوري، بعد ما انهزم في حرب 1976.

أبنية متهالكة، طرقات محفرة، تسير عليها سيارة الأجرة بصعوبة، ما يطرح أكثر من سؤال حول وضع هذه المنطقة، التي لا تبعد عن الجولان أكثر من 30 كيلومتراً، وكانت تتمركز فيها قوات سورية كبيرة. لم يقم النظام السابق ببناء خط جبهة عسكرية، ثمة مساحات مفتوحة على امتداد عشرات الكيلومترات لا يوجد فيها عسكري واحد، أو استحكامات عسكرية، عدا عن أن الطرقات في حال يرثى له، ولا يمكن أن تتحرك عليها عربة عسكرية بسهولة. وفي قرية دورين، التي تبعد 20 كيلومتراً عن محافظة القنيطرة يتغير نمط العمران، إذ يحل الحجر البركاني الأسود محل الإسمنت، وتكثر المشاتل، وتبدأ تلوح من بعيد على اليمين عنفات توليد الكهرباء في قرية مجدل شمس، التي رفضتها لمدة عامين، وتم فرضها بالقوة.

مدينة القنيطرة قليلة السكان

ندخل القنيطرة. تبدو المدينة كأنها قليلة السكان، عيون الناس تنظر بتوجس وصرامة، لا أحد يرد على الأسئلة. حديث في العموميات، حينما أدركوا أننا لسنا من المدينة. هناك بعض الحواجز العسكرية للأمن العام، وثكنات الجيش، التي تبدو الحركة والمظاهر حولها عادية جداً. لا شيء يوحي بأنها مدينة القنيطرة التي تقع على الحدود مع العدو، سوى إيقاع الأهالي القلق، المفعم بروح المواجهة والتحدي، فهؤلاء الذين استمروا هناك هم الحراس الفعليون لحدود البلد، الذين تحملوا عناء البقاء في أرضهم.

نسأل الأمن العام عن التجول في مدينة القنيطرة وزيارة الحدود. يشيرون لنا إلى مجدل شمس ويقولون، لا تقتربوا كثيراً من الحدود، لا تصلوا إلى سد رويحينة، قد يطلق عليكم الإسرائيليون النار. حينما تلوح طائرات إسرائيلية مسيّرة من بعيد تراجعوا بسرعة. هذه المناطق تشهد توغلات إسرائيلية بين الحين والآخر، لا تشمل مركز مدينة القنيطرة التي عادت فيها دوائر الدولة للعمل، بل القرى المحيطة بها.

حركة حذرة جداً في المدينة. لا أحد ينصح بزيارة الأماكن الباقية ومنها متحف القنيطرة وبعض مساجدها وكنائسها. هناك حالة من التوتر والخوف من التوغلات الإسرائيلية المتكررة، ولذلك قررنا التراجع ورفض السائق أن يتقدم أكثر، فعدنا أدراجنا. وفي طريق العودة لاحظنا شاحنات تنقل الأغنام في اتجاه دمشق، يقول السائق إنها في طريقها للتصدير إلى الخارج. نتوقف عند مخيم خان الشيح، الذي طاوله دمار النظام السوري السابق، وحاله اليوم يشبه ما آلت إليه بقية المخيمات الفلسطينية. من هنا خرج كثير من المثقفين والصحافيين والفدائيين الفلسطينيين. وهناك حركة إعمار تشي بأن المكان يتغير، وربما لن يبقى من المخيم سوى الاسم.

المحافظة منزوعة السلاح

أهم الملاحظات التي يخرج بها زائر المنطقة هي أنه ليس هناك قوات عسكرية سورية على طرفي الطريق ما بين مركز القنيطرة وحتى حدود دمشق، وهذا أمر لا يعود إلى مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، بل إلى أعوام خلت سحب فيه النظام القوات التي كانت موجودة هناك، وزجها في معارك الداخل. وبالتالي، لا تبدو المحافظة بوضعها الحالي بحاجة إلى اتفاقية نزع سلاح مع إسرائيل، فهي كذلك فعلياً، فلا يوجد فيها جيش سوري أصلاً، ولا أسلحة منظورة. وحيثما تجول الزائر يجد المزارع ذات المساحات الواسعة المنبسطة. يمكن للقنيطرة أن تشكل حلاً لمدينة دمشق من عدة مشكلات، وخاصة بعد اجتثاث الغوطة من قبل النظام السابق، وتحويلها إلى مناطق سكنية مبنية على نحو بشع يفتقر لمقومات العمران الحضري. أرض صالحة للزراعة، بفضل تربتها الخصبة وغناها بالمياه، وهذا يتطلب تحويلها إلى مزرعة مفتوحة، وبناء مدن ذكية وسط بيئة صحية بعيدة عن تلوث العاصمة.

الطاقة البديلة حل سريع لمشكلة الكهرباء. ورغم أن المنطقة موصولة بشبكة كهرباء الدولة فإنها تعيش واقع المحافظات السورية من حيث التقنين الجائر. لكنها استطاعت عبر الطاقة الشمسية أن تحصل على الإنارة الكافية وإدارة شؤون الحياة الأخرى، وخاصة الري بالتنقيط. القنيطرة مدينة جميلة لا تبعد عن دمشق كثيراً، هي على مرمى وطن، تتجه عيون أهلها نحو سورية، ينتظرون أن يلتحقوا بالبلد، بعد مرحلة طويلة من الإهمال ورفع اليد عنها، والتي يبدو أن سببها خضوع النظام السابق للابتزاز الإسرائيلي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows