
"باريس التي عشتُ، دفتر يوميات"، عنوان كتاب عيسى مخلوف، لا يمكننا فيه فصل الكاتب، الذي يظهر بضمير المتكلم في العنوان، عن المدينة التي تقاسمه إياه، وما تحيلنا عليه عبارة "دفتر يوميات" من هوامش ومذكرات وتفاصيل. كأنّ الكاتب، في عنوان كتابه، يتراجع كلمة بعد كلمة، من الكوني إلى الحياة المباشرة والشخصية، إلى التفصيل والحواشي.
في الواقع، سيلتحق الكتاب بعنوانه، وسيكون في كل فصل منه تقاطع غني بين هذه المجالات، بل سيكون بعضها مرايا لبعض، تُشرف الواحدة منها على الأخرى. وسيكون كلٌّ من مكانه: الفنان من لوحته، الكاتب من نصه ومن شخصه وحياته، المدينة من زوّارها ومعارضها ومبدعيها، مطرها وأزقتها، وسُقَاط الأشياء المرمية فيها. سيكون كلُّ ذلك معاً لُمامةً واحدة، ونوافذ تُطل على نفسها وعلى غيرها، ومؤلَّفاً يشترك فيه الراوي والزوار والعابرون واللحظات والوقائع والهوامش، كلٌّ في محله، وكلٌّ مع غيره، وكلٌّ يتواصل مع الآخر، مع نفسه ومع آخره.
سيتشكّل من كلّ ذلك سيرةٌ بالدقائق والأعوام والعقود؛ سيرةٌ بالإيقاع والصوت والفكرة والواقعة واللقطة والملاحظة العابرة، باللمح والمسمّى واللامسمّى، بالحقيقي والخيالي، بالوهم والواقع، بقصاصة الطريق وهوامشها. يتشكّل من كلّ ذلك ما تراوح صفحاته، ما تتقابل وتتواجه، وربما تتزاوج وتندمج.
كأنّ الكاتب يتراجع كلمة بعد كلمة من الكوني إلى الحياة المباشرة
ستكون باريس هي المدينة، وهي أهلها، لكنها في الوقت نفسه أكثر من ذلك: إنها الكون في مكانٍ واحد، العالم في زمنٍ خاص. هي أكثر من أن تكون لنفسها أو لأهلها فقط. إذا نظرنا إلى فهرس الكتاب وألقينا نظرة على الأسماء التي فيه، سنجد فرنسيين وغير فرنسيين، باريسيين وغير باريسيين. نحن، بالطبع، لا نميّز بين هؤلاء وأولئك. سنجد لبنانيين بنسبة كبيرة، ولا نتعجّب، فمخلوف باريسي بقدرهم وبقدر سواهم. زُوّار باريس هم أبناؤها أيضاً، بل إن كتبهم فيها تنتمي إليها بالدرجة نفسها، وكذلك لوحاتهم ومنحوتاتهم وموسيقاهم وأفكارهم، منها وإليها، بالقدر ذاته.
بالطبع، لكلٍّ خصوصيته، ولكلٍّ أسلوبه وعالمه. مخلوف يتوقّف عند كلٍّ منهم، لكنه لن يقدّم دراسات وأبحاثاً. ما يهمّ الكاتب هو ما وراء ذلك كلّه، وبعده. سيتكلم عن الهشاشة فنّاً في تجربة إيتيل عدنان؛ هذا عنوان حقيقي لفنّها.
حين ننتقل إلى شفيق عبود، نجد أنفسنا أمام فنٍّ له مرحلته التجريدية، لكن هذا لا يمنع حيرته أمام التجريد، وشعوره بانقضاء مهلته. وعند حديثه عن آدم حنين، نتفاجأ بمصطلح "النحت الصافي"، الذي لا يروي بل يُصغي، ويبدو فيه الحجر، في صقله، كأنه صفحة ماء. في ذلك، يقدّم عيسى غالباً ملاحظته التي هي عينُه الخاصة.
سنواجه معه إيف بونفوا، في خوفه من ألّا تؤدي لفظته إلى معناها الدقيق، وفي إحساسه بأن الزمن هو وقت اختناق الشعر، وفي إلحاح الموت على حديث صلاح ستيتية في أخريات أيامه؛ هذا ما يسمعه عيسى منه.
عيسى، لدى عدد من الشخصيات التي يرويها في كتابه، يتوقّف عند لقاءاته معها، لتكون هذه اللقاءات هي الموضوع بالدرجة الأولى. نسمع معه كلام آسيا جبار، وهي تقول إن الإبداع يبدأ لعباً ليتحوّل إلى ضرورة. ونسمعه مع سعد الله ونوس، وهو يتكلّم عن أن الإنسان يفتقر كثيراً إلى الحساسية والجمال اللذين يتخايل بهما الذباب، وهو يقول إن الإنسان محكوم بالإعدام. سنجد مقارنة مثيرة بين الحيوان الحاضر في قصائد أمجد ناصر وثور بيكاسو. ونراه يسمّي فاروق مردم بيه بوصلة الثقافة العربية في فرنسا.
بالطبع، سنقرأ بإمعان مقالاته الثلاثة عن بورخيس، وذلك الكلام عن الرؤية، لا بالعينين وحدهما، بل بالجسد كله. سنتجوّل معه في باريس، وسنقرأ تلك القصاصة التي وجدها في الشارع: "الحياة لا قيمة لها. الحياة ليست قصة خرافية: إلى كلّ من يفكّر مثلي، يُرجى التوقيع". هكذا، من سعد الله ونوس، وجاكوتيه، وبونفوا، من الكون الكبير، نصل إلى كلمات الشوارع.
* شاعر وروائي من لبنان

Related News

