
في مشهد صادم لأبناء المدينة، أو بعضهم، حتى لا يجري اتهامي بالتعميم من بعضهم، حُطِّم تمثال "شهداء سورية" في ساحة سعد الله الجابري بحلب، على أيدي متعهدين ضمن مشروع لإعادة تأهيل بعض المواقع العامة. الحادثة، التي اعتبرتها جهات سورية رسمية "خطأً في التنفيذ"، أثارت موجة غضب واستياءً واسعَين، تجاوزا الوسط الثقافي والمعارض، لتصل إلى شرائح من أهالي المدينة الذين نادراً ما يعبّرون عن مواقف سياسية، لكنهم شعروا هذه المرّة بأن هوية مدينتهم تتعرّض للإهانة.
لا يحمل تمثال الشهداء أي دلالة على تمجيد "النظام السابق" كما حاول بعضهم تصويره دفاعاً عن عملية التحطيم، بل هو تخليد لذكرى الذين قاتلوا وناضلوا ضد الاحتلال الفرنسي، وقدّموا أرواحهم من أجل استقلال سورية. هؤلاء الشهداء لا ينتمون إلى حزب أو تيار، بل إلى تاريخ وطني جامع، سبق كل الانقسامات السياسية والعسكرية التي عرفها البلد لاحقاً. ولهذا السبب بالتحديد، يشكل التمثال جزءاً من الذاكرة الجمعية لأهالي حلب، على اختلاف انتماءاتهم، ويُعد مسّه أو تغييره من دون إجماع أو تشاور تعدّياً على أحد ثوابت المدينة الرمزية.
المؤسف أن العملية بدت أقرب إلى الهدم منها إلى الترميم. لم تُسجل أي خطوات تمهيدية أو إشعار رسمي يوضح ما سيحدث للنصب، ولا بدّ أن هناك إشرافاً من الهيئات الثقافية أو البلدية المعنية بحماية الرموز العامة. ومع أن سلطات المدينة أعلنت أن "التمثال سيُعاد تركيبه بعد الترميم"، زادت الطريقة العنيفة في التفكيك وغياب الشفافية من الشكوك، وطرحت تساؤلاتٍ حقيقية بشأن النيات خلف ما جرى، وعن الأسباب التي دفعت جهات مجهولة فعليّاً إلى اتخاذ قرار بإزالة النصب من دون أي نقاش عام.
من لا يغضب لرمز شهدائه، لن يُبالي إن سُرقت كرامته
لا يمكن فصل ما جرى عن منطق إدارة يزداد انفصالاً عن الناس، ويعتمد أسلوباً وصائيّاً يعتبر كل شيء ملكاً للسلطة، من دون أي اعتبار لحقّ السكان في الاعتراض أو حتى التعبير عن رأيهم. ولا يتعلّق الأمر هنا فقط بتمثال، بل بتقليد متكرّر في التعامل مع الموروث الثقافي: إزالة، استبدال، إعادة صياغة، من دون استشارة أو تفسير أو إشراك حقيقي للناس في ما يخص ذاكرتهم ومدينتهم. ومع أن أصواتاً رأت في التمثال عنصراً "قبيحاً" أو "قديماً"، إلا أن قيمته لا تنبع من جمالياته الشكلية، بل من رمزيته التاريخية والمعنوية، التي لا يملك أحد حقّ العبث بها أو احتكار تأويلها.
المقلق في الحادثة أيضاً الصبغة العقائدية التي بدأت تطفو على السطح. إذ برّر بعض من عملوا على إزالة التمثال، ومن دافعوا عنهم لاحقاً، فعلهم من منطلق ديني متشدّد، واصفين النصب بأنه "صنم" يُحرّم بقاؤه في الشارع العام. تعيد هذه المقاربة، المستندة إلى خلفيات سلفية، فتح باب خطير لطالما هدّد الحياة الثقافية والمدنية في مجتمعاتنا: فرض رؤية دينية ضيقة على الفضاء العام، واستباحة كل ما لا ينسجم معها.
يرسل هذا الخطاب رسالة ترهيب واضحة لكل من لا يشارك هؤلاء تصوّراتهم الدينية، سواء من المسيحيين أو المسلمين غير السلفيين أو من العلمانيين. فحين يُنظر إلى تمثال للشهداء بوصفه "شركاً" أو "وثناً"، فإننا لا نكون بصدد نقاش حضاري حول الذاكرة العامة، بل أمام محاولة ممنهجة لطمس معالم المدينة الثقافية والتاريخية، واستبدالها بسردية دينية صارمة لا تقبل التعدّد. وهو النهج نفسه الذي شهدناه في تجارب مريرة أخرى، حين سُحقت التماثيل والمتاحف والمراقد في مدن مثل الموصل وتدمر، باسم العقيدة والطهارة.
لم يكن تحطيم التمثال في حلب مجرّد كسر لحجر، بل كسر صمت طويل كان كثيرون يظنونه قبولاً
لا يقتصر الاحتقان الذي أحدثته الحادثة، كما ظهر في التعليقات وردود الفعل، على طرف سياسي دون آخر. حتى بين من يُفترض أنهم مؤيدون للسلطة الحالية، كان هناك من عبّر عن استيائه ورفضه ما جرى، لأن القضية تمسّ ذاكرة مشتركة، ولأن ما حدث جرى بطريقة فوقية ومهينة، وكأن لا أحد في المدينة يستحق أن يُسأل أو يُحترم رأيه.
يكشف ما جرى بوضوح حجم الهوة بين من يتخذ القرار ومن يعيش تداعياته. وهو أيضاً تعبير عن نزعة متزايدة لفرض نمط ثقافي وديني وسياسي أحادي على مجتمع متنوّع مثل حلب، اعتاد أن يكون متعدّد الهويات، غنيّاً بتناقضاته، وليس خاضعاً لنمط واحد.
لم يكن تحطيم التمثال مجرّد كسر لحجر، بل كسر صمت طويل كان كثيرون يظنونه قبولاً. أن تُنتزع ذكرى الشهداء من ساحة المدينة بهذه الطريقة أشبه بأن يُنتزع قلب أم من صدرها من دون وداع. لم تبك الناس التمثال لأنه جميل، بل لأنه بقي واقفاً حين انهارت أشياء كثيرة من حولهم: صداقات، بيوت، ثقة، أحلام. كان التمثال شاهداً صامتاً على من عبروا الحياة بشجاعة، وعلى من بقوا يحاولون حفظ المعنى وسط الركام. وما حدث له، في لحظة واحدة، كشف كم أن هذه المدينة لا تزال تُعامل غنيمةً لا وطناً، وكأن من ضحّوا لأجلها لم يكونوا أكثر من حجر يمكن استبداله أو طمسه إذا خالف المزاج السائد.
ولمن يسارع إلى التهكّم على من انتقدوا الحادثة، متهماً إياهم بـ"التلهي بالتماثيل" في وقت الجوع والانهيار، نقول: إنّ من لا يغضب لرمز شهدائه، لن يُبالي إن سُرقت كرامته. ليس التمثال رفاهية، بل مرآة لما تبقى من إحساس جماعي مشترك. وحين تُمحى الرموز، تنهار المعاني، ويصبح كل شيء قابلاً للاستبدال: الذاكرة، والحقّ، وحتى الوطن نفسه.

Related News

