
أطلق الأشقّاء السوريون هويةً بصرية لسورية الجديدة، سورية الوحدة كما نأمل لها. وفي قلب هذه الهوية رمزية الطير الجارح (العُقاب بدلالته التاريخية) وفوقه ثلاث نجمات. ولا أدري لماذا الإصرار على الطيور الجارحة، في شعارات الدول، وسورية لا تنفرد بذلك، فدول كثيرة تستخدم تلك الرموز، وبعضها يستخدم الجمل أو الأسد، إلخ. لكن لبنان الشقيق الذي ولد في زمن معاصر لسورية المعاصرة، اختار أهله شجرة الأرز شعاراً في قلب العلم، ليقدّم صورة لبنان للعالم، واختار الكنديون ورقة القيقب رمزاً وطنياً.
وسورية موطن الحضارة، ودمشق أقدم المدن المأهولة وأهدت إلى البشرية حضارة ناصعة، فلماذا الطير الجارح؟ ألم يكن أجدى أن يكون الشعار من ياسمين دمشق أو فُلّها أو نسرينها أو وردها الجوري؟ ألم يُهد الدمشقيون العالم سرديّة الفلّ والزنبق أو أسماء شجر ريوتها وغوطتها التي عُدّت من أنزه جنان الأرض، وقال فيها حسّان بن ثابت: يسقون من ورد البريص عليهم/ بردى يصفق بالرحيق السلسل؟ ... أو من متنزّه نهر الأبله، الذي يُعدّ من أجمل متنزّهات الأرض؟ ألم تسافر القدود الحلبية إلى الأندلس مع بني أمية وعادت إلى الشرق موشّحات؟ ألم يؤلف السوريون أكثر الناس في مباهج الورد ومحاسنه؟ ألم تملك دمشق واحداً من أسواقها باسم "سوق الدهشة"؟ يريد السوريون اليوم هوية بصرية برموز دالّة على القوة وشوكة الدولة ووحدها. لكني لا أجد أبلغ من قوة الياسمين الدمشقي، وردة دمشق الشام.
حين دخل جيش فيصل بن الحسين دمشق عام 1918، وأعلن الدولة العربية الموحّدة، كانت سورية خارجة للتو من زمن الاستبداد الحميدي، آنذاك تدثرت ركب خيل الثورة العربية بالياسمين الدمشقي والفلّ والنرجس والورد والزنبق، آنذاك وما زال، ظلّ ياسمين دمشق ابلغ حضوراً وأشع وجوداً، وظلّ ماء وردها يعطر موائد المدن ومصانع عطرها الباذخ.
أنا دمشق، يا سادة، التي لم تفلح عندي صفقة ابن خلدون مع الغزاة، ولم يتح لحافظ الأسد أن يعاند معي قاسيون، وأسقطته مع ابنه وأبده
طائرٌ جارحٌ لدولة، في ذاكرتها جراحٌ كثيرة عبر نصف عقد وأزيد، ولكن الذي حفظ لسورية وحدتها ذوق أهلها الرفيع، وحبّهم الحياة وإيمانهم بأن دمشق سيدة المدن، وأن حلب درّة التاج في طريق الحرير الحضاري، لا طريق الحرير المطروح اليوم للتنافس على زعامة العالم.
لا تستقيم الجوارح مع صابون الغار الحلبي المعجون بالعسل وحبّة البركة، والذي أهدى إلى السوريين نضارة الأبدان، ولا تستقيم الجوارح مع رائحة خبز حِمص، ولا مع موارد الجُبن إلى السوق الكبير في حماة، ولا مع سنابل حوران وقمحه اللامع الذي أطعم روما زمناً مديداً يتجاوز الـ 14 عاماً من ثورتها المجيدة والمستحقّة نصرها الأخير.
أيها السادة، إنها دمشق، التي ألّف فيها ابن كنان الصالحي في القرن الثامن عشر، حين أراد استحضار الآداب السلطانية كتاباً بعنوان "حدائق الياسمين في قوانين الخلفاء والسلاطين"، وهي التي وضع فيها الأديب محمد بن أحمد الكنجي كتاب "بلوغ المنى في تراجع اهل الغنى"، وهي التي انتشر فيها العشق بين البيوت في ظاهرةٍ من التقارب العمراني قلّ نظيرها، أطلق عليها "التعشيق"، وتلك نافورتها في مقهى النوفرة التي تحدّث عنها ابن بطوطة حين زارها.
إنها دمشق نصّ للراحل خيري الذهبي في معنى الحرية من القنوات إلى كفر سوسة، أو مشهد من مكتب عنبر الذي خرّج نخبة بلاد الشام في التعليم، أو صرخة عالم دمشقي، مثل أبي المواهب الحنبلي وعبد الغني النابلسي، اللذين قاوما في زمن آل عثمان الظلم، وتعرّضا للعزل والنفي، يومها أفتى النابلسي بوجوب هجرة القرى في الريف، لمنع الولاة القاسطين الظلَمة من أخذ الرسوم، وتلك الغضبة امتدت قروناً، ثم انفجرت من درعا في شكل آخر مع صوت الحرية، بلحن لسميح شقير وأعاده بنشيد "يا حيف"، وكان قد سأل عام 1983 بقصيدته "لمن أغني" عن بدايات الحرية، أو بصورة إنسانية بالغة الأثر في أشعار ممدوح عدوان في "جبل المجازات".
إنها دمشق وحريرها، وبردى وماؤها، والرقّة وجمالها واللاذقية وتنوّعها، إنها سمعةٌ طويلةٌ من العطاء والتقدّم، التي تسمو بإنسانيتها فوق كل خسائر الحروب وحرائق دمشق التي دوّنها زكريا تامر، واستحضر منها البطولات والقيم الكبرى لشعب كبير.
أنا دمشق، يا سادة، التي لم تفلح عندي صفقة ابن خلدون مع الغزاة، ولم يتح لحافظ الأسد ان يعاند معي قاسيون، وأسقطته مع ابنه وأبده، أنا أرض الهوى والعشق والعطاء والبذل. وأنا شامة الدنيا، وسّر نظارتها التي طوّعت حمامات الرومان من العام إلى الخاص، أنا سجلات محاكم شرعية ممتدة قروناً ومجاميع فتوى وأسئلة الناس للفقهاء ومجاميع الخطب في الأموي وجامع السنانية، وحركات العامّة والفلاحين ضد الاستبداد.
أنا حماة التي بدأت تحذيراتي مبكّراً من الاستبداد عام 1516 بعد مرج دابق، مع أحمد بن عطية بن علوان لسلاطين آل عثمان يوم دخلوني. ويومها نادبت بآل عثمان بعدم تجاهل العروبة وتخفيف حضور العسكر والحدّ من تصرّفاتهم غير اللائقة في المدن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قدمت دمشق أول مآذن الإسلام المربّعة، التي كانت استمراراً تاريخيّاً لإرثٍ مسيحيٍّ كان مبنيّاً في معبد دمشق الذي بُني على أنقاضه الجامع الأموي
حين تعود دمشق ومعها الكل السوري بصورة جديدة، فهي تستحقّ كل جمال وبهاء، يليقان بزمن البناء الذي ينهي زمن الأفول، كما قال الرئيس أحمد الشرع. لم يكن لمدينة أكثر من دمشق الشام حضور في مدوّنات الفضائل. وهي التي أعطت الدنيا ثقافة الحياة والعيش ومفهوم المصالح المشتركة. دمشق التي آوت الأغراب، والتي تملك أكثر المصادر التاريخية تنوّعاً من آثار ومآذن وقباب مساجد ومدارس، وأسبلة ماء وأنواع القماش الذي وثّقه الراحل الصديق جان بول باسكوال ابن مدرسة الحوليات الفرنسية، وقبله فعل أندريه ريمون ما هو أكثر، وكتب السوريون ما هو أجمل في حقّ مدينتهم، أمثال ابن عساكر سيد المدرسة الشامية في التاريخ أو محمد كرد علي في خِطَطِه، ومحمد مطيع الحافظ وأكرم العلبي وغيرهم، وفي مدن سورية الكبرى آثارٌ كثيرة تؤكّد أنها تستحقّ ما هو أبلغ وأندى وأكثر إنسانية في رموز هويتها، وهي التي قدّمت أول الأبجديات في تل رأس شمر في حضارة أوغاريت.
قدمت دمشق أول مآذن الإسلام المربّعة، التي كانت استمراراً تاريخيّاً لإرثٍ مسيحيٍّ كان مبنيّاً في معبد دمشق الذي بُني على أنقاضه الجامع الأموي، ثم عرفت المنطقة المئذنة المربّعة باسم الأمويين، وأخذها المسلمون وجعلوها منارة النداء للسماء، ومعها القبب الجميلة التي قال عنها إيليا أبو ماضي في قصيدته "تحية للشام":
حي الشام مهنداً وكتابا/ والغوطة الخضراء والمحرابا
ليست قباباً ما رأيت وإنما/ عزم تمرّد فاستطال قبابا
فالثم بروحك أرضها تلثم عصوراً/ للعلى سكنت حصى وترابا
وكذلك نزار قباني الذي لم يترك في شعره ونثره شيئاً إلا ووثقه وصفاً، حتى القطط الدمشقية لم تنج منه، كذلك فإنه صوّر الياسمين وهو يسقط في بركة الدار كأقمار تهوي من السماء. وأما مآذن المدينة فقال فيها: مآذن الشام تبكي إذ تعانقني/ وللمآذن كالأشجار أرواح.
إنها دمشق التي احترقت كثيراً عبر العصور، وقامت مراراً من جديد. وهي اليوم تنهض وتستردّ تاريخها المشع وستظل موعودة بالخير والعطاء، وسيظل وردها وخرير ماء نوافيرها وسجايا أهلها وحبهم للدنيا، وميلهم للتقوى والأخلاق الحميدة جزءاً من دائرة معارف الإنسانية.
ماء الورد والزهر الدمشقي الذي صدّرته دمشق إلى العالم عبر السنين سيظل سيّد المنكّهات والعطور
هي دمشق الشام حلقات متصوّفة ونداءات سوق عظيم، هناك في ليلة العيد يرتب الناس أطواقاً من ورق الآس وورد الياسمين لزيارة المقابر. وسورية الراهنة التي تحتاج اليوم للمنعة ومظاهر قوة الدولة صحيح، لكن ماء الورد والزهر الدمشقي الذي صدّرته دمشق إلى العالم عبر السنين سيظل سيّد المنكّهات والعطور، فمن دمشق انتقلت وردة الجوري إلى روما مع جند الرومان العائدين منها، ومنها انتقلت إلى لندن، واصبحت بعد ذلك رمزاً للعائلات الملكية في بريطانيا. وفي القرن التاسع الميلادي، استخدم ماء الورد الدمشقي في منازل غرناطة وإشبيلية، وظهر الورد رمزاً في ثياب الفلامنغو. ثم انتشرت الوردة الدمشقية كجسر للتبادل الحضاري، وهي التي تحدّث عنها شكسبير ونزار قباني الذي قال: "جئتكم من تاريخ الوردة الدمشقية التي تختصر تاريخ العطر".
إنها دمشق مرّة أخرى بعودات متكرّرة إلى التاريخ، من باب شرقي وباب الجابية، والتي اعتادت العودة من الركام، عبر رسالة فقيه أو قصيدة شعر أو قطعة من حرير الدامسكو/ البروكار أو القيشاني. وهي بذلك الإرث قادرة على أن تجعل العُقاب يطارح الحَمَام الدمشقي هديلاً، ويتعطّر برائحة وردها ويُفرد جناحيه حنواً على مآذن الشام وأبراج كنائسها.
ختاماً، أعرف أن للعُقاب في الهوية البصرية دلالات جرى شرحها، ولكل السوريين أمنيات الاستقرار والاستمرار بالفعل الحضاري، لكنها استمرارية الورد والياسمين والفلّ الذي طوّع النفوس الكبار، وهو الذي جعل السوريين أهل هدأة وتمدّن، وهو أجمل ما يشبه السوريين مع صوت مآذنهم وقرع أجراس كنائسهم ونوافذهم المزنّرة بتوقيعات الزمن البهي ورائحة التاريخ.

Related News

