عن تمثال الشهداء والتدمير الثقافي
Arab
1 week ago
share

قال ابن خلدون: "إن الناس في الغالب تتبع لأهل السلطان في اعتقاداتهم، يميلون إلى دين الدولة وطريقتها في الاقتداء والتشبه".

استفاق السوريون منذ أيام على مشهد مؤلم ومخيّب لآمالهم، وهو مشهد عملية تحطيم تمثال الشهداء المُنتصب في مدينة حلب في حديقة أخذت اسمها من اسم الزعيم الوطني والسياسي السوري ورئيس وزراء سورية الحلبي، سعد الله الجابري. أعاد المسؤولون في مدينة حلب تحطّم التمثال إلى خطأ تقني حدث من دون توقّع له، لا بل اعتبروا أنّ تصحيح هذا الخطأ ممكن جداً وسيحصل فعلياً، وسيتم ترميمه وإعادته إلى مستودع دائرة الآثار والمتاحف. 

 حتى في خضم التأثّر والضجة البالغة التي أحدثها تحطيم التمثال لم يعلن المسؤولون أيّ نيّة أو احتمال ممكنين لإعادة التمثال إلى قواعده سالماً. أما ذريعة النقل البريء التي لم تكن تقصد إيذاء التمثال أبداً، فمشكوك فيها لدرجة اليقين، خاصة أنّ عملية التصوير الرسمية والمُعلنة المُرافقة لعملية الهدم تشي فعلياً بحقيقة الهدف من ربط رأس التمثال وليس قاعدته بحبل معدني لتسحبه بعدها شاحنة بطريقة عشوائية، مما سبّب فوراً تحطيم الجزء العلوي منه ووقوعه على الأرض وتفتيت بعضٍ من أجزائه جرّاء السقوط أو الإسقاط لا فرق.

أسمى أحد المسؤولين في مديرية ثقافة حلب التمثال (بالمجسّم) وهذه التسمية كافية لتحديد ماهية وحقيقة الموقف من التمثال! وهذا ما يتطابق فعلاً ومضموناً مع القول الوارد سابقاً لابن خلدون. أما الأسباب الرسمية الموجبة لنقله فهي ببساطة وبحسب التصريحات المكرّرة: إفساح المجال أمام أعين المتابعين للشاشة العملاقة المنصوبة في الساحة لمتابعة احتفالية إعلان الهُويّة البصرية السورية التي نُقلت في بثٍّ مباشر.

أسمى أحد المسؤولين في مديرية ثقافة حلب التمثال (بالمجسّم) وهذه التسمية كافية لتحديد ماهية وحقيقة الموقف من التمثال!

 زمنياً، ما بين حضور التمثال وتركيب الشاشة أربعون عاماً فقط، أي إن التمثال راسخ في ثباته وحضوره في الساحة التي يزورها يومياً أهل حلب ويعتبرونها رئة جمالية ومكانية مهمة، عاطفياً ورمزياً وجمالياً.

من ثم، كان على المسؤولين إدراك أنّ تثبيت الشاشة لا بُدّ أن يراعي الموجودات الثابتة غير القابلة للتحريك، مما يعني، وببساطة متناهية، أن يكون التحكّم في مكان الشاشة وليس بإزالة التمثال. ولا بُدّ من الإشارة إلى التصفيق الذي تمّ من قبل بعض الحاضرين، وهم هنا موظفون عموميون وليسوا أفراداً عاديين، مما يثبت بما لا يقبل الشك أنّ الإزالة مقصودة، وأنّ أيّ تلف للتمثال سيسجّل حُكماً أنه "خطأ فردي" قابل للتصحيح. وقد بات هذا التبرير سلوكاً عامّاً في آليات الرد الرسمي على كلّ الخروق الجارية.

وفي الردود المبرّرة لعملية الإزالة المشوّهة، تمّ تعميم رواية تقول إن التمثال قد شُيِّد لتكريم أفراد الجيش السوري في فترة حكم حافظ الأسد الساقط خلال معارك قمع تحرّكات الإخوان المسلمين، والتي استمرت من 1979 وإلى 1984، وترتكز الرواية الداعمة للإزالة على نظرية القطع اللازمة والضرورية مع الحقبة الأسدية السوداء التي قتلت وشرّدت الشعب السوري وكتمت على أنفاسه وصادرت حرياته في التعبير والكرامة.

 لكن، تمّ نفي هذه الرواية من عدّة مصادر مطلعة من فنانين وكتّاب ومؤرخين لمدينة حلب وتاريخها الفني، ومنها صديق للمصمّم والنحات كان قد رافقه أثناء عملية تثبيت النصب، إضافة إلى مصدر مقرّب من عائلة الفنان الراحل، عبد الرحمن المؤقت، ابن مدينة حلب الذي صمّم ونحت هذا التمثال وتابع تفاصيل تثبيته مع فريقه الفني لحظة بلحظة. 

يشير البعض إلى مشهد وطبيعة الأجساد المنحوتة في التمثال، ويؤكّد وجود مساحات من العُري في الأجسام المنحوتة، ويربط هذه الإشارة بالتضييق الجاري على حرية الأجساد، خاصة حرية المرء في ارتداء ما يريد وإبراز ما يريده أو إخفاءه، لأنه يمارس قناعته/ها بأنّ جسده/ها ملك حصري له/ا، وهي التجلي الأوضح لعلاقة كلّ فرد بجسده.

لا يمكن حماية الثقافة من التدمير بمجرّد تعهدات شفهية بإجراءات عقابية لمدمريها، بل تتم حماية الثقافة باعتبارها جزء أصيل من ماضي الدول وحاضرها ومستقبلها، وإرث يجب حمايته ورد أيدي العابثين عنه، خاصة الغلاة الرافضين لكلّ ثقافة لا تنسجم مع ولاءاتهم واعتقاداتهم. 

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows