التمرد الناعم: حين تصرخ النساء من تحت بيت السلحفاة
Arab
1 week ago
share

لم تكن البداية مأساة صريحة، بل اتفاقًا غير مُعلن بيني وبين ما ورثته من قريتي: أن أكون كما يجب أن أكون، فتاة خجولة وحسّاسة ينعتها الجميع بالمؤدّبة، صوتها لا يرتفع كثيرًا، لا تمضغ العلكة في الشارع...

ورغم أنّي كنت في بيئة منفتحة نسبيًا، لكن كان بيت السلحفاة في قريتي فوق ظهري. فعشت كما يريدون لا كما أريد؛ أن ألبس ثوب الطاعة، لا ما تخيطه روحي. أن أعيش في القوقعة باسم المحبّة، وأن أُدفن حيّة باسم الاحترام والعيب والعرف والعادة.

تزوجت في الثالثة والعشرين، ليس لأنني كنت جاهزة، بل لأنني كنت ابنة بيئة مجتمعية جاهزة لفكرة الزواج أكثر من فكرة الحلم والطيران. فُتحت الأبواب، لا على العالم، بل على غرفةٍ أكبر قليلًا من غرفتي، في قرية أكبر قليلًا من قريتي، لكن بجدران أكثر سماكة.

كنت أعيش في قوقعة "المفروض". والمفروض كان أكبر من الحبّ، ومن العلم، ومن النضج

هناك، بدأت الحياة تشبه تمارين البقاء: كوني أكثر هدوءًا، كوني أكثر طاعة، كوني "بنت ناس". كنت أعيش في قوقعة "المفروض". والمفروض كان أكبر من الحبّ، ومن العلم، ومن النضج. المفروض كان نظامًا سياسيًا مصغرًا، تبدأ سلطته من "ماذا ستطبخين؟" وكيف تنظفين وتنتهي بـ"ما حقك في أن تكوني؟".

حين غادرت إلى الكويت، لم أكن لاجئة سياسية، بل لاجئة من الفكرة القديمة عن نفسي. والكويت الجميلة، الحارة، المنضبطة، استقبلتني كأنها زوجة أب قاسية تريد أن تعيد تربية فتاة سورية رقيقة كأنها ماء النبع.

في بيتها، حاولت الحياة أن تجعلني روبوت لا امرأة حرّة. لكنني كنت قد بدأت عملية تنقيب أثرية في داخلي: مدافن نساء لم يمتن بعد في داخلي، أنبش قبور النساء المدفونات فيّ. امرأة كانت تحلم بأن تكتب بحرية يومًا، أخرى أرادت أن تصير صاحبة قرار، ثالثة حلمت بأن تضحك بصوت عالٍ من دون أن تُتهم بقلّة الأدب. كنت أستعير من كلّ واحدة قوّتها، وأبني من دموعهن قصرًا جديدًا اسمه "اللامفروض".

الموت... ليس رعبًا حين تراه مرتين

حين واجهت السرطان، شعرت أنني التقيت الموت مبكّرًا، لكن على طاولة النقاش، لا على برّاد الموتى. كان المرض وقحًا، لكنه شفاف. قال لي: أنتِ ستخسرين شعركِ، لكنكِ ستربحين نفسك. وحين صرت أنظر في المرآة، كنت أرى امرأة بلا شعر، لكن بعينين تلمعان بوهج البدايات قوّةً. أعدت ترتيب كلّ شيء داخلي وصرخت مع الألم: ها أنا ذي حرّة. ثمّ جاءت الثورة في سورية كي تجعلني أشعر بقدرتي على تمزيق شرنقتي. 

بعد سقوط الأسد عدت إلى سورية. ليس كلّ شيء على ما يرام. لكنني ما زلت أنبض بالأمل وبدأت تخبو في داخلي السعادة؛ الناس متعبة، الوجوه مُنكسرة، اللاشيء واللاجدوى يملآن المكان... ثم جاء عزاء أم زوجي في سورية.

النساء في سورية اليوم لا يقدن الدولة، بل يقدن "البكاء الجماعي"

تلك المرأة التي لم تملك عصا كي تهشّ الكآبة عن روحها، صخب أنوثتها كان جميلًا، لكنها استسلمت لحياة ليست لها، فعشّشت الكآبة في روحها حتى أكلتها.

عدت. دخلت بيت العائلة. نظرت في الوجوه؛ نساء مهزومات، عيون خامدة، حضور ثقيل مليء بالنفاق المجتمعي، حيث يتحوّل الحزن إلى تأتأة عندما يغذّيه التكرار الممجوج. عزاء لا يشبه الفقد، بل يشبه إعادة تمثيل العادات، حتى الموت صار عادة.

وأمام برّاد الموتى، كان هناك ملصق عليه لثمرة فراولة موضوعة في صحن زجاجي أنيق. تلمع من دون روح، رمز منمّق لحياة باردة، يطلّ من بين برد الفناء.

تذكرت سارتر: "الجحيم هو الآخرون"، وقلت في نفسي: أحيانًا الجحيم هو الآخرون حين يفرضون علينا شكل الحزن، شكل الحياة، وحتى شكل الموت.

سورية... بلد بلا نساء

حين أعود بالذاكرة إلى سورية، لا أرى النساء في البرلمان، ولا في مراكز القرار، ولا في الخطابات السياسية. لا أسمع امرأة تتحدّث باسم الشعب، ولا أرى مذيعة تخرج عن النصّ. النساء في سورية اليوم لا يقدن الدولة، بل يقدن "البكاء الجماعي".

في المشهد السياسي، المرأة غائبة كما تغيب الحرية، وإن حضرت، فهي موظّفة في تلميع الواجهة، لا في كسر الجدران.

كل الشعارات الوطنية تصبح نكتة حين تُقال في بلد يخاف من امرأة تقول "لا"

أمّة لا تضع نساءها في المقدّمة، هي أمّة تمشي على قدم واحدة. كلّ الشعارات الوطنية تصبح نكتة حين تُقال في بلد يخاف من امرأة تقول "لا".

 بيت السلحفاة... هذا الذي يظنونه أمانًا

المجتمع يعتلي ظهر المرأة مثل قوقعة. يحبّها بطيئة، صامتة، ثقيلة، تمشي تحت العباءة، وتنام تحت السقف، وتموت تحت الطاعة. يربيها على أنّ القيد أمان، وأنّ الخوف حكمة، وأنّ الطاعة كرامة. لكنني الآن أعرف أنّ الشرنقة ليست قدرًا، وأننا لسنا فراشات مؤجّلة للاحتراق في لهب النار. نحن، ببساطة، نساءٌ يحتجن فقط إلى شقّ أوّل فتحة في هذا الجدار، لتبدأ الشمس بالدخول.

ما البديل؟ وماذا بعد الرفض؟

التمرّد ليس دائمًا صراخًا. التمرّد أحيانًا يبدأ بجملة واحدة تقولينها لبنتك: "افعلي ما تحبين، لا ما يُطلب منكِ." ويبدأ بدرس تمنحين فيه لامرأة أخرى كتابًا، لا وصفة طبخ. ويبدأ حين تقولين لرجل أحببته: "لا أحب هذا"، وأنا حرّة في ما أرتدي، وكيف أتحدث، من دون خوف من ردّ فعله. والأهم: التمرّد يبدأ حين تعترفين لنفسكِ بأنّ ما عشتِه لم يكن طبيعيًا، ولا مقدّسًا، ولا واجبًا. كان فقط نظامًا اجتماعيًا خائفًا من امرأة مختلفة.

البديل؟

مجتمع يرى في المرأة شريكًا، لا خادمة. دستور يعترف بحقوق الجسد والعقل، لا يُحاكم الرحم بقضايا الشرف. دولة فيها وزارة للنساء ليست لتزيين الصورة بل لتغيير الواقع. إعلام تعتلي فيه النساء المايكروفون لا ليبكين، بل ليصنعن التاريخ. وفي الختام، لكلّ امرأة تعتقد أنها وحدها، أقول لها: هناك جيش من النسوة خرجن قبلكِ من القوقعة، وبدأن الحياة من جديد. هذا المجتمع الذي يُلبسكِ قيدًا باسم الدين، لا يعرف الله. وهذه السلطة التي لا ترى النساء، لا تعرف سورية. اخلعي القوقعة، واصعدي. ما زال هناك قمّة ننتظر أن تصرخي منها: "هذا القيد ليس أمانًا... أنا حيّة".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows