
مرّت العلاقات الأفغانية الباكستانية في مراحل مختلفة، تتحسّن أحياناً وتسوء أخرى، وقد لعبت قضية المهاجرين الأفغان، الموجودين في باكستان دوراً أساسياً في هذا المدّ والجزر في هذه العلاقات. لقد لجأ كثيرون من الأفغان إلى باكستان بسبب الحروب المدمرة، وتكرّر احتلال بلدهم، وبسبب النزاعات الداخلية، وعدم الاستقرار السياسي في البلد، إذ أصبح وجودهم هناك مع مرور الزمن جزءاً أساسياً من التحليل السياسي والأمني في هذا البلد. ويتناول هذا المقال البُعد السياسي والأمني لقضية اللاجئين الأفغان في سياق الحملة التي أطلقتها باكستان لترحيلهم قسراً، وأثر هذه الحملة على العلاقات بين البلدَين، ويطرح السؤال: هل يُشكّل اللاجئون الأفغان تهديداً حقيقياً لأمن باكستان، أم أنها قضية صُوّرت كذلك للاستفادة منها أداة ضغط سياسي بتأطيرها تهديداً أمنياً؟
وفي الإطار النظري، تعتمد المقالة على نظرية الأمننة (Securitization) التابعة لمدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية، والتي تُبيّن أن الأمن ليس حقيقة موضوعية، بل نتاج اجتماعي للخطابات السياسية والثقافية. وتُظهر النتائج التحليلية للمقالة أن الأجهزة الاستخباراتية العسكرية والهياكل السياسية في باكستان صوّرت الأزمة الإنسانية للاجئين الأفغان تهديداً أمنياً للمجتمع الباكستاني، بهدف استخدام ذلك للضغط على الإمارة الإسلامية في أفغانستان بشأن عدّة ملفات سياسية واستراتيجية في العلاقة بين البلدَين. وتخلص المقالة إلى أن "أمننة" قضية اللاجئين الأفغان لا تُعدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان فحسب، بل تُفاقم أيضاً حالة انعدام الثقة السياسية بين أفغانستان وباكستان. وتقترح المقالة أنه إذا كانت أفغانستان وباكستان ترغبان في تطبيع العلاقات بينهما (وهو ما تحتاج إليه الدولتان فعلياً) فذلك يتطلّب أولاً أن تواصلا التعامل مع بعضهما على أساس من الندّية. وثانياً أن تتخلى باكستان عن التصوّر القائم على السيطرة الأمنية تجاه العلاقات بين الجارتَين (باكستان وأفغانستان)، فملفّ هذه العلاقات يديرانه في باكستان الجيش والاستخبارات، أي من منظور أمني، بدلاً من البحث عن المصالح المشتركة. وإذا أرادت باكستان فعلاً بناء علاقات طبيعية وإيجابية مع أفغانستان، فعليها أن تسلّم إدارة ملف العلاقات الباكستانية ـ الأفغانية إلى الجهات المدنية، وبالمثل، على أفغانستان ألا تُحوّل علاقتها مع باكستان قضيةً أمنيةً، وأن تديرها من خلال القنوات الدبلوماسية.
أمننة قضية اللاجئين الأفغان في باكستان
يعيش اللاجئون الأفغان في باكستان منذ عدة عقود، ففي وقتٍ كانت باكستان تواجه تهديداً وجودياً من الاتحاد السوفييتي السابق، لم يُنظر إلى هؤلاء اللاجئين إلا بوصفهم أبطالاً يدافعون عن باكستان، وكان الشعار السائد في الأوساط السياسية الباكستانية حينذاك "الجهاد في أفغانستان دفاع عن باكستان"، وكانت الجهات الرسمية تعترف بأن تضحياتهم في أفغانستان لم تساهم فقط في تحرير بلادهم من الهيمنة السوفييتية الظالمة، بل ساعدت أيضاً في حماية باكستان من استيلاء الاتحاد السوفييتي عليها في ذلك الوقت.
لم يُشكّل اللاجئون الأفغان في أي وقت خلال عدة عقود مضت تهديداً فعلياً لأمن باكستان
ومنذ ذلك الحين، استقر هؤلاء اللاجئون في باكستان، وفي مراحل تاريخية لاحقة، اضطر أفغان عديدون إلى اللجوء إلى هذا البلد المجاور، حيث سعوا إلى حياة آمنة نسبياً. ومع ذلك، لم يُشكّل اللاجئون الأفغان في أي وقت خلال عدة عقود مضت تهديداً فعلياً لأمن باكستان. بل كان تصنيفهم تهديداً أمنياً يتم عندما ترغب الاستخبارات الباكستانية باستخدامهم وسيلةً للضغط على النظام الحاكم في أفغانستان. واليوم لا يهدّد هؤلاء أحداً، غير أن الاستخبارات العسكرية الباكستانية، وبعض السياسيين المتواطئين معها، عملوا على "أمننة" (Securitization) هذه القضية، بهدف استخدام اللاجئين ورقة ضغط على النظام الحاكم في أفغانستان لتحقيق أهداف معينة، وانتزاع تنازلات في قضايا محدّدة.
وفي سبيل تهيئة الرأي العام لترحيل اللاجئين قسراً، لجأ المسؤولون الباكستانيون إلى توظيف نظرية "الأمننة" الخاصّة بمدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية، والتي تفيد بأن الحكومة حين ترغب في اتخاذ إجراءات استثنائية أو غير قانونية ضد طرف معيّن، فإنها تُصوّر هذا الطرف أو تلك القضية على أنها تهديد وجودي لأمن الدولة، ما يُفسح المجال أمام تطبيق تلك السياسات القمعية من دون معارضة مجتمعية تُذكر.
مراحل أمننة قضية اللاجئين الأفغان
تمرّ أمننة قضيةٍ في ثلاث مراحل أساسية، وقد خضعت قضية اللاجئين الأفغان في باكستان لهذا المسار الثلاثي ذاته.
الأولى: الفعل الخطابي الأمني (Speech Act)، يتمثل هذا الفعل في تصوير جهة أو جهات مسؤولة قضية ما بوصفها تهديداً وجودياً. وفي قضية اللاجئين الأفغان، قام القائم بأعمال رئيس الوزراء الباكستاني، أنوار الحق كاكَر، بهذا الدور، حيث وجّه اتهامات لللاجئين الأفغان بأنهم يشكلون تهديداً أمنياً لباكستان، مدّعياً تورّط الشباب الأفغان في أحداث إرهابية. وقد مهّدت هذه التصريحات لانطلاق المراحل التالية من عملية الأمننة.
الثانية: قبول الجمهور (Audience Acceptance)، فعندما تُعرض قضيةٌ ما من المسؤولين بوصفها تهديداً أمنياً، تلعب وسائل الإعلام والشخصيات الفاعلة في المجتمع دوراً محورياً في إقناع الرأي العام بقبول هذه الرؤية. وقد كان لوسائل الإعلام الباكستانية، فضلاً عن شخصياتٍ مؤثّرة في المجتمع الباكستاني، دور فعّال في أمننة قضية اللاجئين الأفغان. ومن أبرز الشخصيات الذين ساهموا في ترويج أمننة قضية اللاجئين الأفغان، على سبيل المثال، أحد المشرفين البارزين على مدرسة دينية مرموقة، أدلى بتصريحات خطيرة في مقابلات منشورة، قال فيها إن "إمارة أفغانستان الإسلامية أصبحت مركزاً للتهديدات التي تواجه باكستان"، وأن النظام الحاكم في أفغانستان يستخدم اللاجئين الأفغان الموجودين في باكستان أداة لتحقيق ذلك. إن وجود اللاجئين الأفغان في باكستان، بحسب هذا الخطاب، يُعدّ تهديداً خطيراً للأمن الاقتصادي والعسكري والاجتماعي للبلاد. وهيّأت وسائل الإعلام الباكستانية، بمشاركة شخصيات دينية وسياسية باكستانية، بيئة دعائية جرّدت اللاجئين الأفغان (عاشوا بسلام عقوداً في باكستان) من إنسانيتهم، وصوّرتهم فجأة أنهم أكبر تهديد للأمن المجتمعي في البلاد.
الثالثة: الإجراءات الاستثنائية (Extraordinary Measures)، فبحسب نظرية الأمننة المذكورة، تنتقل الدولة إلى اتخاذ تدابير خارجة عن المألوف، عندما يُقدَّم موضوع ما بوصفه تهديداً أمنياً ويقبله المجتمع على هذا النحو. في حالة اللاجئين الأفغان، اتخذت الحكومة الباكستانية إجراءاتٍ لم يكن لها أي أساس قانوني، ولم تكن تليق بعلاقة حسن الجوار التي تدّعيها، فاقتحمت الشرطة منازل المدنيين بالقوة، واعتقلت اللاجئين، وتعرّضت النساء للضرب، وصودرت ممتلكاتهم وأموالهم قسراً، بل وصلت الوقاحة إلى حدّ النهب والسرقة، وطُرد اللاجئون في ظروف مأساوية، ما أثار استياء واسعاً لدى منظمات حقوق الإنسان الدولية.
من قضية إنسانية إلى أمنية
لماذا عمدت الاستخبارات العسكرية والسلطات الباكستانية إلى أمننة قضية اللاجئين الأفغان، وهي في الأصل قضية إنسانية بحتة؟... في تقدير كاتب المقال، المبرّرات التي يسوقها المسؤولون الباكستانيون وبعض المؤيّدين لهذا القرار، لتسويغ هذا السلوك لا تقوم على أساس صحيح، بل خلف هذه القضية جملة من المطالب التي تطرحها الحكومة الباكستانية، وتطلب من الحكومة الأفغانية تنازلات فيها، أبرزها:
1. قضية اضطهاد البلوش والبشتون
ترغب المؤسّسة العسكرية والاستخباراتية الباكستانية في أن تحل الإمارة الإسلامية في أفغانستان (نيابة عنها) قضية الحركات المسلّحة للمقاومة التي يقودها البلوش والبشتون ضدّ الدولة الباكستانية. ونظراً إلى أن الإمارة الإسلامية لا ناقة لها في هذه القضية ولا جمل، ولا تريد أن تتدخّل فيما لا شأن لها فيها، والجيش الباكستاني واستخباراتها العسكرية عندما لا يجدان منها تجاوباً، يلجآن إلى ممارسة الضغوط عليها. فما حقيقة قضية البلوش والبشتون؟
ليست هذه القضية وليدة اللحظة، بل تعود إلى تاريخ تأسيس باكستان نفسها، فمنذ قيام الدولة، كان هناك نظام غير عادل، تهيمن عليه المؤسّستان، العسكرية والاستخباراتية، وتحكمه "الدولة العميقة"، ما أدّى إلى شعورٍ عام بالظلم في أقاليم الدولة، باستثناء إقليم البنجاب. فبقية الأقاليم، إلى جانب القوميات غير البنجابية، تشعر بأنها محرومة من حقوقها، وأن ثرواتها الطبيعية تُستغل لصالح إقليم البنجاب من دون أن تجني هي شيئاً منها.
ترغب المؤسّسة العسكرية والاستخباراتية الباكستانية في أن تحل الإمارة الإسلامية في أفغانستان (نيابة عنها) قضية الحركات المسلّحة للمقاومة التي يقودها البلوش والبشتون ضدّ الدولة الباكستانية
وفي السنوات الماضية، أضيفت إلى هذا الشعور بالظلم قضية أخرى خطيرة، "المفقودين قسراً" من البلوش والبشتون، إذ تعتقل الاستخبارات العسكرية الباكستانية الأفراد بطريقة سرّية وغامضة، فلا يُعرف إن كانوا في عداد الأحياء أم الأموات، من دون أن يتمكّن أحد من السؤال عن مصيرهم. وقد عُرفت هذه الظاهرة في الإعلام الباكستاني بـ"المفقودين" أو "المختفين قسراً"، وهي من أخطر صور القمع، وقد بلغت حدّاً غير مسبوق من الوحشية.
تُركت القضية في يد المؤسّستين، العسكرية والاستخباراتية، الأمر الذي زاد من شعور المظلومية لدى هذه الشعوب. وتحول هذا الشعور في مناطق كثيرة كراهيةً موجّهةً ضدّ مؤسّسات الدولة الباكستانية. بل تحوّلت الكراهية، في بعض المناطق، إلى مقاومة مسلّحة.
وفي ظلّ تصاعد الضغط الناتج من هذه العمليات المسلّحة، تحاول المؤسّسة العسكرية أن تلقي باللائمة على أفغانستان، وتوهم شعبها بأن الإمارة الإسلامية تقف خلف هذه التحرّكات، وأنها الداعم الخفي لها. بدلاً من أن تنظر الدولة الباكستانية إلى هذه القضية من زاوية الحقوق السياسية والقانونية، وتسعى إلى معالجة جذور الظلم، بمنح الشعوب حقوقها المشروعة، أو حتى إقناعها بقبول الوضع القائم، نجد أن استخباراتها توهم الشعب الباكستاني أن الحكومة الأفغانية تؤوي هذه الحركات وتوفر الدعم لها. وعندما ترفض الإمارة الإسلامية الانصياع للضغوط، تلجأ باكستان إلى استغلال ملف اللاجئين وترحيلهم بصورة قسرية، متعمّدةً انتهاك حقوقهم، وطردهم على نحو مهين ومستعجل.
2. قضية حركة طالبان الباكستانية
تُعد قضية حركة طالبان الباكستانية في جوهرها سياسية، فالحركة في أصلها سياسية، لكنها عندما فشلت في الوصول إلى أهدافها عن طريق الوسائل السلمية لجأت إلى وسائل عسكرية، وأهدافها نوعان، كل منهما سياسي: أهداف عالمية تتمثل (بحسب خطاب الحركة نفسها) في إقامة نظام إسلامي عالمي، غير أن الحركة لم تحدّد آلية واضحة لتحقيق هذه الأهداف، بل تتصوّر أنها ستتحقّق تحت قيادة الإمارة الإسلامية في أفغانستان ووفق برنامجها. وهذا يدلّ على أن الحركة لا تتعامل مع هذا الهدف بجدّيةٍ كافية، بل إنه ليس في مقدّمة أولوياتها. وهناك أهداف محلية/ إقليمية، ويتمثل الهدف الأساسي محلياً في الحفاظ على الوضع التاريخي للمناطق القبلية، التي كانت عبر القرون حرّةً ومستقلة، وحتى الاستعمار البريطاني لم يتمكن من إخضاعها لنفوذه، وكان يحكم تلك المناطق نظام قبلي هو في نظر حركة طالبان باكستان يتوافق في طبيعته مع المبادئ الإسلامية. غير أن الاحتلال البريطاني سعى إلى فرض قانون مهين عُرف بـ"نظام الجرائم في المناطق الحدودية" (Frontier Crimes egulation)، وفي 2018، ضمّت الحكومة الباكستانية هذه المناطق بشكل كامل إلى الدولة الباكستانية، وجعلتها خاضعة للقانون الباكستاني العام. ومن هنا، تسعى قيادة حركة طالبان الباكستانية إلى استعادة الوضع القانوني والسياسي السابق لتلك المناطق القبلية، وترفض تطبيق قانون "FCR" أو أيّ قانون آخر من قوانين الأقاليم الباكستانية، التي تصفها بالجائرة.
مطالب "حركة طالبان الباكستانية" ذات طبيعة سياسية، وينبغي للمؤسّسة العسكرية والاستخبارات العسكرية الباكستانية أن تتعامل معها في هذا الإطار
مطالب "حركة طالبان الباكستانية" ذات طبيعة سياسية، وينبغي للمؤسّسة العسكرية والاستخبارات العسكرية الباكستانية أن تتعامل معها في هذا الإطار. غير أن باكستان تتوقّع من الإمارة الإسلامية أن تتبنّى هذه القضية وتواجه عناصر هذه الحركة نيابةً عنها. وهذه المطالب غير الواقعية نابعة من نظرة المؤسّسة العسكرية الباكستانية المتغطرسة، التي ما تزال تتعامل مع الأنظمة الحاكمة في أفغانستان كأنها خاضعة لأوامر صادرة من إسلام آباد، وعليها تنفيذها فوراً. وعندما رفضت الإمارة الإسلامية الاستجابة لمثل هذه المطالب (غير المنطقية أصلاً) لجأت باكستان إلى الضغط من خلال ورقة اللاجئين الأفغان وترحيلهم القسري، مستخدمة إياها أداةً سياسية.
3. علاقات أفغانستان مع الهند
أحد المطالب الثابتة لباكستان أن تحدّ أفغانستان من علاقاتها مع الهند، وأن تمرّ عبر "فلتر" المراقبة الباكستانية، وتخضع لإشراف المؤسسات الأمنية الباكستانية، إلا أن هذه المطالب تفتقر إلى المنطق والعقل، فأفغانستان دولة مستقلة وذات سيادة، ومن حقها، وفقاً للقوانين الدولية، أن تُقيم علاقات خارجية مع أيّ دولة بما يحقق مصالحها الوطنية. ورغم مطالبة باكستان الدائمة بأن تقطع الإمارة الإسلامية علاقاتها أو تقلّصها مع الهند، تحتفظ باكستان بعلاقاتٍ دبلوماسيةٍ وتجاريةٍ واسعةٍ مع نيودلهي، وفي حين أنها تعرقل التجارة بين أفغانستان والهند، فإنها توسّع تجارتها الخاصة مع الهند، وتخفي حجم هذه العلاقات التجارية عن الرأي العام. وفي ظل هذه الازدواجية، تصبح مطالبة أفغانستان بقطع علاقاتها مع الهند فاقدة للشرعية والعقلانية.
4. قضايا أخرى
إلى جانب هذه القضايا العاجلة، ثمّة قضايا استراتيجية متفرّقة نحو قضية خط ديورند، وتحديد الحدود الرسمية بين أفغانستان وباكستان. وقضية المياه، خاصة استغلال مياه أنهار كونر وكابل وغيرها داخل أفغانستان، والمطالب الباكستانية المتصلة بالاعتراض على ذلك. واستمرار اتهام الطرف الأفغاني بالتهريب... إلخ.
الترحيل القسري للاجئين: حلقة من ضغوط متواصلة
مع تولّي الإمارة الإسلامية السلطة في كابول، بدأت القيادة العسكرية والاستخباراتية الباكستانية في تنفيذ استراتيجية تهدف إلى دفع هذه القضايا نحو حلول تتماشى مع مصالحها، بالاستناد إلى تسلسل علاقاتها السابقة مع الحكومات الأفغانية. ويمكن تلخيص هذه الاستراتيجية في النقاط الآتية:
1. ممارسة الضغوط عبر القنوات الاستخباراتية، وإظهار الإمارة الإسلامية كأنها خاضعة للوصاية الاستخباراتية الباكستانية. ويتمثل ذلك في زيارة مدير الاستخبارات العسكرية الباكستانية (ISI)، الجنرال فيض حميد، كابول، وإعطاء انطباع للعالم بأن باكستان هي التي تتحكّم بالوضع في أفغانستان. وكان الهدف من ذلك استعادة نمط العلاقة السابقة، فتبقى قرارات الإمارة متماشية مع الرؤية الباكستانية.
2. تصريحات داعمة لأفغانستان صادرة عن وزارة الخارجية الباكستانية، والدعوة إلى الإفراج عن الأموال المجمدة، وتشجيع المجتمع الدولي على الانخراط الإيجابي مع الإمارة، في محاولة لتقديم باكستان طرفاً متعاطفاً مع الإمارة، ومن ثمّ ممارسة ضغط معنوي عليها.
3. استخدام المساعدات الإنسانية وسيلةً لاستمالة تعاطف الإمارة مع باكستان. وقد أُنشئ لهذا الغرض "منتدى التعاون الباكستاني الأفغاني" (Pak-Afghan Cooperation Forum)، برئاسة حبيب الله ختَك، إلا أن المنتدى توقّف عن العمل لاحقاً بعدما تبين ضعف تأثيره، ولم تعد صفحته الإلكترونية (pac.pk) نشطة.
3. بعد ذلك، بدأت باكستان إرسال وفود من العلماء إلى أفغانستان، فزارت البلاد مجموعات من علماء الدين الباكستانيين، من أبرزها الوفد الذي ترأسه العالم الباكستاني مفتي تقي عثماني، وكانت زيارة مولوي فضل الرحمن، زعيم جمعية علماء الإسلام - باكستان، حلقةً في هذه السلسلة. إلى جانب ذلك، أرسلت وفود أخرى كثيرة إلى كابول للغرض نفسه. وهدفت باكستان من هذه الزيارات إلى تحقيق هدفَين: ممارسة ضغط ديني على الحكومة الأفغانية لتوافق على مطالب الاستخبارات الباكستانية، وإن لم تفعل ذلك، ولم تستجب لمطالب العلماء الباكستانيين، فإن ذلك سيؤدّي إلى تقليص الدعم المعنوي لها داخل الأوساط الدينية الباكستانية، الطبقة التي تعتبر الداعم الطبيعي في المجتمع الباكستاني لنظام الإمارة الإسلامية في أفغانستان.
4. ولمّا رأت باكستان أن الضغوط السلمية والإيجابية لم تثمر، لجأت إلى الضغوط السياسية والعسكرية، فبدأ مسؤولوها باستخدام خطاب سلبي بحقّ الإمارة الإسلامية في أفغانستان في محافل دولية، مثل تصريحات ممثلها في الأمم المتحدة، تزامناً مع شنّ غارات جوية داخل الأراضي الأفغانية في عدة مواقع، وهي سلسلة استمرّت فترة طويلة.
5. استخدمت باكستان في الضغط على الحكومة الأفغانية إغلاق الحدود أداة للضغطين الشعبي والاقتصادي، خصوصاً في مواسم تصدير الفواكه والسلع الأفغانية، ما تسبّب في خسائر فادحة للتجار الأفغان، إلى جانب عدم السماح بالسفر للمرضى الذين يعانون من أمراض مستعصية ومزمنة لتلقي العلاج في المشافي الباكستانية.
استخدمت باكستان في الضغط على الحكومة الأفغانية إغلاق الحدود أداة للضغطين الشعبي والاقتصادي، خصوصاً في مواسم تصدير الفواكه والسلع الأفغانية، ما تسبّب في خسائر فادحة للتجار الأفغان
وبعد ممارسة تلك الضغوط كلّها، وفشلها، لجأت باكستان إلى استخدام ورقة الترحيل القسري للاجئين الأفغان، وسيلةً للضغط، بهدف إجبار الإمارة الإسلامية على قبول مطالبها في القضايا المشار إليها. ولا يُستبعد أن تلجأ الاستخبارات، والجيش الباكستاني، مستقبلاً إلى تسليح جماعاتٍ مسلّحةٍ داخل أفغانستان واستخدامها ورقة تهديد، باعتبار أن التفكير العسكري يرى في ذلك خياراً طبيعياً لحلّ النزاعات.
النتيجة الطبيعية أن السلطات الباكستانية تعتبر وجود اللاجئين الأفغان في أراضيها وسيلةً فعّالةً للضغط السياسي والأمني على الحكومات المتعاقبة على حكم أفغانستان. ويُرجّح بشدة أنّ باكستان لن تتخلى مطلقاً عن هذه الورقة، ولن تقدم على ترحيل جميع اللاجئين بشكل قسري، لأن جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية قادرٌ على استغلال هذا الوجود بطرق أكثر ضرراً، كما أشير سابقاً، إذ قد يتجه في مرحلة متقدّمة إلى إنشاء جماعات مسلحة وتمويلها، خصوصاً إذا توافرت الإرادة لدى قوى إقليمية أو دولية نافذة ترى مصالحها في تأجيج النزاع، وتمكنت من تمويل هذه الجماعات، وهو احتمال واقعي في ظلّ الحسابات الأمنية للجيش الباكستاني.
ما على الحكّام في أفغانستان القيام به
رغم أن دولاً مجاورة ربما لا تكون راغبةً في عودة جميع اللاجئين إلى وطنهم، ورغم أن لاجئين أفغاناً كثيرين لا يرون أن الظروف الحالية في البلاد تسمح لهم بعودة آمنة وكريمة، إذ يرون أن مقوّمات الحياة المستقرّة غير متوفرة حالياً في أفغانستان، فإن هذا الواقع يؤكّد الحاجة الملحّة إلى تهيئة الظروف الكفيلة بتشجيع العودة الطوعية للاجئين الأفغان إلى بلادهم. ولا يتوقّف توفير هذه الظروف عند البُعد الإنساني، بل هو ضروري أيضاً لسحب أداة الضغط من أيدي الدول الأخرى، خصوصاً الدول المجاورة، التي تستغلّ ورقة اللاجئين سلبياً ضدّ أفغانستان. ويمكن تحقيق ذلك من خلال: إجراء إصلاحات سياسية جذرية تتجه نحو الشرعية القانونية والنظام الدستوري، بما يُكسب النظام السياسي في أفغانستان مشروعيةً داخليةً واعترافاً دولياً؛ تحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان التوازن القومي واللغوي والمناطقي والطبقي، وإنشاء جهاز أمني وشرطي واستخباراتي مهني شفّاف وغير مسيّس؛ توفير الرفاه الاجتماعي من خلال تحقيق نمو اقتصادي وتوفير فرص العمل للمواطنين جميعاً، من غير محاباة لطبقة معينة أو أتباع تيّار معيّن؛ إصلاح منظومة التعليم، وخاصّة التعليم العالي والتقني والمهني، وتوفير فرص التعليم للجميع؛ احترام حرية التعبير والحقوق المدنية؛ إصلاح وتطوير قطاع الخدمات العامة وتحسين جودة الخدمات الاجتماعية؛ إعداد استراتيجية شاملة لعودة اللاجئين الأفغان المقيمين في الخارج؛ إزالة جميع العقبات التي تعوق عودة اللاجئين؛ إطلاق برامج فعالة لإعادة دمج العائدين في المجتمع وتمكينهم من بدء حياة متماسكة وكريمة.
نتائج وتوصيات
تمثل النقاط التالية مقترحات أساسية لحلّ قضية اللجوء في أفغانستان، وهي بحاجة إلى إرادة سياسية قوية. وبناءً على ما تقدّم من تحليل لقضية الترحيل القسري للاجئين الأفغان من باكستان، توصّلنا إلى النتائج والتوصيات التالية:
1. مشكلة اللاجئين الأفغان أخيراً في باكستان، كما هو حال قضايا أخرى عديدة، تؤكّد أن علاقاتها مع أفغانستان تُديرها المؤسستان العسكرية والاستخباراتية الباكستانيتان، لا السلطة المدنية. وتعتمد هذه المؤسّسات في تعاملها على منطق القوة والضغط بدلاً من الحوار والدبلوماسية.
2. المبرّرات التي تقدّمها الأجهزة الاستخباراتية الباكستانية لتبرير الترحيل القسري للاجئين الأفغان، بزعم أنهم يشكّلون تهديداً أمنياً، لا تستند إلى حقائقَ موضوعية.
3. ليست هذه القضية أمنيةً في جوهرها، بل قضية صُنعت أمنياً عبر ما يُعرف بـ"الأمننة"، من جهازي الجيش والاستخبارات الباكستانيين.
4. الهدف الأساس من هذه الأمننة استخدام قضية اللاجئين وسيلة ضغط على الإمارة الإسلامية في ملفّات متعدّدة.
على الإمارة الإسلامية أن تسعى من خلال إصلاحات داخلية إلى إضعاف أدوات الضغط الخارجية، وإبطال مفعولها
5. الأمننة حوّلت قضية إنسانية أداةً لتحقيق أهداف سياسية، ما أدّى إلى انتهاك الحقوق الأساسية للاجئين كثيرين.
6. بالنظر إلى تاريخ العلاقة بين باكستان وأفغانستان، هناك احتمال كبير بأن تُستغلّ قضية اللاجئين مستقبلاً بشكل أكثر خطورة ضدّ أفغانستان.
7. من هنا، يُستبعد أن تعيد باكستان جميع اللاجئين إلى وطنهم، بل يُرجّح أنها ستواصل استخدامهم ورقةَ ضغطٍ فعّالة.
8. على الإمارة الإسلامية أن تبادر بعملية "بناء أمّة" حقيقية تعيد اللاجئين طوعاً إلى وطنهم وتقطع الطريق أمام استغلالهم من قبل باكستان وكذلك الدول الأخرى.
9. ولكي يتحقّق ذلك، يجب توفير ظروف جاذبة للعودة الطوعية، وإزالة العقبات التي تمنعها.
10. ينبغي وضع استراتيجية شاملة لحلّ قضية اللاجئين والعائدين، بمشاركة جميع المعنيين بقضية اللاجئين، مع إطلاق برامج فعّالة لإعادة دمجهم في المجتمع.
11. أثبتت حادثة الترحيل القسري من باكستان الأهمية البالغة للعلاقات السياسية والدبلوماسية للإمارة الإسلامية مع المجتمع الدولي، إذ كان وجود علاقات فاعلة سيمنع الأجهزة الاستخباراتية الباكستانية من الإساءة إلى اللاجئين الأفغان بهذا الشكل الفاضح.
12. من الممكن جدّاً أن تستخدم دولُ الجوار الأخرى ورقةَ اللاجئين ضدّ أفغانستان بصورة أكثر بشاعةً، ومن هنا يتحتّم على الإمارة الإسلامية اتخاذ خطوات استباقية لحلّ الأزمة قبل أن تتفاقم.
13. على الإمارة الإسلامية أن تسعى من خلال إصلاحات داخلية إلى إضعاف أدوات الضغط الخارجية، وإبطال مفعولها، مع التخلّي عن التصوّر الساذج بأن دول الجوار لن تستغلّ أيّ فرصة متاحة للضغط.
14. رغم أن بعض عناصر الشرطة والإعلاميين وبعض العامّة في باكستان أظهروا تعاملاً غير لائق مع اللاجئين، فهذا لا ينبغي أن يتحوّل عداءً بين الشعبين، لأنّ العقلاء يدركون أن هذه السياسات تصدر من المؤسّسة العسكرية، لا من المجتمع المدني، وهذه المؤسّسات لا تتورّع حتى عن إيجاد القطيعة بين الشعوب، إلا أن الشعوب الواعية لا تنجرّ إلى العداء الذي لا يخدم مصلحة أحد.
حلّ قضية اللاجئين يمثّل ضرورةً وطنيةً، لأن الإخفاق في ذلك سيُبقي هذه الورقة سيفاً مسلّطاً على رقبة البلاد
15. من مصلحة البلدَين أن يحافظا على علاقات مستقرّة بعيدة من التوتّر، إذ لا غنى لكلّ منهما عن الآخر. وعلى الإمارة الإسلامية أن تسعى بجدّية للحفاظ على قنوات التواصل مع الدول المجاورة، بشرط أن تكون هذه القنوات مدنيةً، تدار من خلال وزارات الخارجية، وليس عبر الأجهزة الأمنية والعسكرية.
16. وإذا كانت باكستان تريد بالفعل تحسين علاقتها مع أفغانستان، فعليها أن تنأى بهذه العلاقات عن تأثير الاستخبارات، لأن تدخّل هذه المؤسّسة يزيد الأمور تعقيداً بدلاً من حلّها.
17. على الإمارة الإسلامية أن تضع خطّةً دقيقةً لتهيئة الظروف لعودة اللاجئين من أصحاب المهن والحِرف ورؤوس الأموال من باكستان، لما لذلك من أثر إيجابي في الاقتصاد، كما يمثّل ذلك ردّاً عملياً على السياسات الباكستانية المتشدّدة.
18. ينبغي التأكيد مراراً على أن حلّ قضية اللاجئين يمثّل ضرورةً وطنيةً، لأن الإخفاق في ذلك سيُبقي هذه الورقة سيفاً مسلّطاً على رقبة البلاد. غير أن هذا الحلّ يجب أن يُراعي كرامة اللاجئين وحقوقهم النفسية والاجتماعية، ويوفّر لهم داخل الوطن ما كانوا يبحثون عنه في الخارج.
19. كما ينبغي أن نُعاهد أنفسنا على ألّا نكرّر في المستقبل سياسات أو ممارسات تدفع أبناء هذا الشعب إلى الهجرة والشتات واللجوء، في المستقبل.

Related News


