
(1)
شهد التاريخُ الإنساني حلقاتٍ تشكّلتْ عبر حقبٍ تولَّى فيها طغاةٌ سيطروا على أحوال مجتمعاتهم بالقهر والشٍّدة، مثل هولاكو ونيرون، وشهدنا في القرن العشرين سطوةَ النظام الهتلري، الذي هزمته قواتٌ تحالفتْ ضدّه فطوى التاريخُ صفحته عام 1945. وحتى لا يقع العالم ثانيةً في أيدي طغاة، بما يهدّد الوجود البشري بالفناء، فقد تعاهد كبار أخيار زعماء العالم، بعد انتصارهم على دول المحور وقادته الأشرار، على الحفاظ على السلم والأمن الدوليَّين، فكان النظام الدولي الذي ساد هو الذي قام على الوثيقة الأولى التي أنشأت الأمم المتحدة، وما تفرّع منها من هيئات ووكالات اقتصادية واجتماعية وثقافية، كما لحقتها كيانات ومنظّمات إضافية غير حكومية، سارت في النهج ذاته، حفاظاً على السلم والأمن الدوليَّين والحفاظ على حقوق الإنسان. ثمّ تبعت تلك الوثيقة وثيقة ثانية حملت القدر ذاته من الأهمية، وتعاهد عليها القائمون على المجتمع الدولي، هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
(2)
غير أنَّ الذي وقع من أحداثٍ وتطوّراتٍ خلال الثمانين عاماً المنصرمة، وشكّل ما صار يُشار إليه بـ"النظام الدولي"، قد أكدّ أن تلك المواثيق والكيانات والمنظّمات كلّها لم تثبت فعّاليةً تذكر لإقرار المبدأ الأساس، وهو الذي توافق عليه ممثّلو المجتمع الدولي في حفظ السلم والأمن الدوليَّين. لربّما لا حاجة للتعرّض لتفاصيل ما جرى خلال العقود المنصرمة منذ أربعينيات القرن الماضي، وحتى السنوات الحالية. إنها بديهيَّات معلومة لا نرى موجباً لتكرارها، ولنا أن ننظر في الأوضاع الماثلة.
لقد كان ملاحظاً خلال العقود المنصرمة، منذ 1945، أن ثمّة اختلالات بنيوية لحقت بالهياكل والمؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية التي أنشأها المجتمع الدولي، ولم تفلح جهود ترميم ما بها من ثغرات، بل لعلّ الفتوق قد اتسعتْ وتركت تلك الهياكل أكثر هشاشةً وضعفاً، وبالتالي أقلّ فعّاليةً ومصداقيةً.
(3)
كان لغياب قدرات الحكمة والدبلوماسية، كالتي نجم عن مساعيها إنشاء النظام الدّولي الذي ساد خلال الثمانين عاماً الماضية، الأثر السالب الذي شاب أداء معظم زعماء العالم اليوم. بعض زعماء وقادة دول كبرى، منحتهم المواثيق الدولية صلاحياتٍ لرعاية النظام الدولي، جنح معظمهم لتولِّي رعاية مصالح بلدانهم من دون مصلحة المجتمع الدولي الأسمى، بل تجرّأ بعض كبارهم على أخذ القانون الدولي بأيديهم، وطفق يتعامل بعضهم بغطرسةٍ بغيضةٍ وبانتقائيةٍ مجحفةٍ، تركتْ بلداناً صغيرةً مغلوبةً على أمرها تتعثّر في أجحار تخلّفها. لم يعُد للصراعات من وسطاء يتصرّفون بحكمةٍ لاحتوائها، ولم يعُد لأذرع النظام الدولي احترامٌ، ولا لأجهزة النظام الدولي (الجمعية العامّة للأمم المتحدة أو مجلس أمنها)، من دور سوى إطلاق عبارات لسانية خاوية إلا من الشجب والإدانة.
لم يعُد للصراعات من وسطاء يتصرّفون بحكمةٍ لاحتوائها، ولم يعُد لأذرع النظام الدولي احترامٌ
الرئاسة الأميركية، التي جاءها دونالد ترامب رئيساً لدورة ثانية، بدت أكثرَ ثقةٍ على تعزيز النفوذ الأميركي في الساحة الدولية، بتعديل في أساليب الحكم، باستناده إلى دبلوماسية خارجية تعتمد على تولّي المقرّبين من حزبه قيادتها، من دون الاعتماد على دبلوماسيِّي وزارة الخارجية أو موظّفي الأجهزة الأمنية التقليديّين. سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسَي النواب والشيوخ جعلته مرتاحاً في كرسي الرئاسة ليفعل ما يريد.
(4)
لعلَّ الحديث عن نوعية الزعامات التي سادت الدول الكبرى، وكتبتْ لها الصدف أنْ تتسـيّد العالم هذه الساعة، لا يحوجنا إلى مزيد تبيان. إن الحكمة التي جمعت البريطاني تشرشل، والأميركي روزفلت، والسوفييتي ستالين، في يالطا عام 1945، هي التي حقّقت لثلاثتهم النصر على دول المحور. أيّ حكمة يمكن أن ينتظرها المجتمع الدولي من كباره، الروسي بوتين، والأميركي ترامـب، والبريطاني ستارمر، والفرنسي ماكرون؟ ثمّ أين الصين من ذلك كلّه؟
تبدو الصورة وكأنَّ جميع من ذكرنا هُم على توافقٍ خفي لأن يلاحق كلُّ طرفٍ منهم ما يطمع فيه من مصالح تخصّ بلاده، وإنْ تحوَّلتْ المنافسات في ما بينهم خلافاتٍ، أو تصاعدتْ الصراعات في الساحات من حولهم إلى حروب لا تُبقي ولا تذر، يدفع الصغار الضعفاء الثمن.
(5)
تنشبَ حروبٌ هنا وهناك... صاحبا الخطّة الكُبرى، الرّاغبان في رسم خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، هما الولايات المتحدة وإسرائيل. الثانية هي الدمية، والأولى هي السَّاحر المُمسك بالخيوط. يشنَّ الاثنان حرباً ضدّ الإرهاب المزعوم من "حماس" و"الحوثيين"، بما يستوجب أنْ تصفّى معها القضية الفلسطينية التاريخية، ودفنها. البقية الباقية من الفلسطينيين يُستوعَبون في دولٍ عربيةٍ أخرى في الشرق الأوسط، وتذوَّب هُويَّتهم في هُويَّات عربية أخرى. أمّا غزّة، في خطّة الرئيس الشعبوي، الذي لا يقرأ التاريخ، ستكون منتجعاً سياحياً ومتحفاً أثرياً لما كان يوماً موطناً لشعب اندثر، مثلما اندثر شعبَا عادٍ وثمود، اسمه الشعب الفلسطيني. تلك بداية "كروكي" الشرق الأوسط الجديد. ولكن كيفَ تُنجز مثل هذه الخرائط وكياناتٌ ماثلةٌ، مثل الأمم المتحدة ومؤسّساتها ووكالاتها، شاخصة لن يتيسّر معها رسـم خرائط المؤامرات بالحذق المطلوب؟
لقد أكل الاستخفاف من بنيان النظام الدولي، فاهترأ، وباتَ مُنهكاً، وحان أوان رحيله
حين تشنّ روسيا حرباً ضدّ أوكرانيا، وتتحارب الأطراف السودانية في ما بينها، وبتحريض إقليمي، وتتقاتل الأطراف الليبية في ما بينها، ثمّ تشنّ أميركا حرباً ضدّ إيران نيابةً عن إسرائيل، وفي مواجهة ذلك كلّه تقف المنظمة الأممية عاجزةً، وقد بلغت الثمانين عاماً، تلك السنّ في عمر الإنسان تمثّل أرذل العمر. لقد أنهى التهميش مصداقية الأمم المتحدة، وخنق دورها.
(6)
لقد أكل الاستخفاف من بنيان النظام الدولي، فاهترأ، وباتَ مُنهكاً، وحان أوان رحيله. غير أن الحاجة إلى حكماء مثل أولئك الذين تداعوا في يالطا عام 1945، ووضعوا نهايةً للحرب العالمية الثانية، تظلّ حاجةً بعيدةَ الحصول أمام ما نشهد من عقولٍ متواضعة المواهب، تسنّمتْ قياد المجتمع الدولي، أحدهم زعيم انطوائي غامض يدير بلاده بعقلية أمنية، وآخر يدير أكبر دولة في العالم بعقلية "تاجر جوّال"، والبقية من زعماءِ دولٍ شاختْ تكاد تميد الأرضُ من تحت أقدامهم، ويسأل بعضهم: أهي من رمالٍ متحرّكة أم من هشاشةٍ في الأقدام؟
ننظر حولنا فتلوح في الأفق أطيافُ أمّة من شعوب صفراء، هي التي ربّما تجدُّ لاقتراح نظامٍ عالميٍّ جديد.

Related News

