شبكة المدن المبدعة.. فرصة ضائعة أم أفق مفتوح للعالم العربي؟
Arab
1 week ago
share

برزت شبكة المدن المبدعة منذ تأسيسها في عام 2004 إحدى أبرز المبادرات التي أطلقتها يونسكو في العقود الأخيرة لتعزيز التنمية المستدامة من خلال الثقافة. فقد نمت عاماً بعد عام، لتضم اليوم أكثر من 350 مدينة موزعة على سبعة مجالات إبداعية: الأدب، والسينما، والموسيقى، والفنون الرقمية، والتصميم، والحِرَف والفنون الشعبية، وفنون الطهو. ولا تقتصر مهمة هذه الشبكة على التبادل الثقافي، بل تسعى إلى تمكين المدن من بناء سياسات محلية تعترف بالإبداع كأداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

في صميم التحولات المعاصرة، يبرز الإبداع بوصفه حجر الأساس في إعادة تشكيل هوية المدن، ليس فقط من خلال إعادة توظيف الموروث الثقافي، بل أيضاً عبر تمكين المبدعين وتحويل إنجازاتهم إلى رافعة حضارية. فالمدن التي تنجح في بناء مستقبلها على أرضية ثقافية متينة، وتُكرِّم فاعليها الثقافيين، هي الأكثر قدرة على الصمود، والتجدّد، وتعزيز التماسك الاجتماعي.

تحت وطأة هواجس راهنة كهذه، أنهت شبكة المدن المبدعة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) قبل أيام مؤتمرها السابع عشر في مدينة إنجيان-ليه-بان الفرنسية، حيث اجتمع ممثلون عن أكثر من مئتي مدينة من مختلف أنحاء العالم.


الحواضر العربية

ورغم أن الخط العام لعمل هذه الشبكة يستشرف المسار الذي تسلكه البشرية حين تضع الثقافة في قلب سياساتها الحضرية، فإن ثمّة أسئلة تُطرَح حول الفرص التي يمكن للمدن العربية اغتنامها من خلال مشاركتها، خصوصاً في البلدان التي تشهد أزمات وحروباً، مثل سورية، واليمن، وليبيا، والعراق. ففي هذه البيئات الصعبة، تُعد الثقافة والإبداع أدوات قوية لتعزيز الصمود الاجتماعي، وإعادة بناء الهوية المحلية، وتخفيف آثار النزاعات على مجتمعاتها.

فرصة للمدن العربية، خصوصاً التي تشهد أزمات وحروباً

وفي سبيل البحث عن إجابة تشرح دوافع ظهور هذه الفكرة وتحولها إلى كيان قائم على الأرض، يمكن القول إن السبب الملح الذي أدّى إلى ابتكارها يعود إلى الحاجة إلى تحويل الأهداف المثالية التي تتكرر في مؤتمرات الأمم المتحدة إلى أهداف قابلة للتنفيذ وفق الشروط المحلية. هذا التوجّه فرض على القائمين عليها إعادة تعريف مفهوم التنمية بعيداً عن الاقتصار على النمو الاقتصادي، والانفتاح على مقاربات شاملة ترتكز على الثقافة والإبداع. فمع تزايد العولمة والتكنولوجيا، بدأت المدن تواجه أزمات تتعلّق بفقدان الهوية الثقافية، وتهميش الفئات الاجتماعية، وتدهور البيئة، وتفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي. وفي ظل هذه المعطيات، بات من الواضح أن دور الثقافة لم يعد رفاهية أو ترفاً فكرياً، بل أصبح مساهماً في تعزيز التماسك الاجتماعي، وإطلاق طاقات المبدعين نحو الابتكار، وفتح آفاق جديدة للاقتصاد والتنمية المستدامة.

وقد جاءت فكرة المدن المبدعة كمبادرة عالمية تقوم على تبادل الخبرات بين مدن تعيش ظروفاً متشابهة، ما يفرض عليها العمل على جعل الإبداع المحلي حافزاً للتطوّر، ووسيلة لحماية التراث الثقافي، وقدرة على التكيّف مع التحديات الجديدة كقضايا التحوّل الرقمي وتغير المناخ.

تتبع تاريخ الشبكة يُظهِر كيف تحوّل وضع الثقافة من كونها عنصراً هامشياً في بيانات القمم الدولية إلى محور رئيس في السياسات العالمية، إذ أظهر نشاط الشبكة، عبر مؤتمراتها المتتالية، سعيها الدائم نحو إدراج الثقافة كهدف مستقل في أجندة الأمم المتحدة.


الثقافة والتنمية المستدامة

فبعد أن حضرت الثقافة في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 المعتمدة منذ عام 2015 بوصفها أداة ضمن أهداف أخرى تتعلق بالتعليم، والبيئة، والمساواة، ولا سيما الهدف الحادي عشر المكرّس للمدن المستدامة؛ أي بناء مدن ومجتمعات محلية شاملة وآمنة ومرنة ومستدامة، تراعي البيئة، وتوفّر بنى تحتية مناسبة، وتضمن وصول الجميع إلى الخدمات والفرص من دون تمييز، مع احترام التراث الثقافي والعمراني، جاء إعلان مدينة براغا البرتغالية لعام 2024 خطوة تصحيحية، إذ يدعو إلى إعادة إدراج الثقافة بشكل صريح في مراجعات ما بعد 2030، باعتبارها ضرورة تنموية بحد ذاتها، لا مجرد وسيلة.

كما تضمّن الإعلان مطالبة بالاعتراف الرسمي بأن للثقافة دوراً جوهرياً في مواجهة التحديات المعاصرة: من التغير المناخي إلى الهشاشة الاجتماعية، ومن التحول الرقمي إلى بناء السلام. وقد اشتمل هذا الإعلان المهم على ثمانية مبادئ رئيسية تهدف إلى جعل الثقافة محركاً أساسياً في التنمية المستدامة لما بعد عام 2030، وهي: الاعتراف الرسمي بالثقافة كهدف مستقل ضمن أهداف الأمم المتحدة؛ وتمكين الحقوق الثقافية وضمان وصول الجميع، بما في ذلك المهمّشون، إلى الفضاءات الثقافية وتنظيم عادل للتكنولوجيا يحفظ حقوق المبدعين في العصر الرقمي؛ والتأكيد على دعم التعليم الإبداعي والتعلّم مدى الحياة؛ وتعزيز الاقتصاد الثقافي والسياحة المستدامة؛ والربط بين الثقافة والعمل المناخي، وحماية الثقافة أثناء الأزمات، وتعزيز السلام والتنوع الثقافي.

ضغوط عولمية وعلاقات اقتصادية تضعف هويات المدن الثقافية

في السياق الراهن، تطرح شبكة المدن المبدعة نموذجاً عالمياً بديلاً، يقوم على تحالف المدن لا الحكومات، وعلى الإبداع المحلي لا النماذج التنموية المفروضة من الأعلى. وفي عالم تتسارع فيه الفجوات بين المراكز والأطراف، تجد المدن — لا سيما الصغيرة والمتوسطة — في هذه الشبكة فرصة لتأكيد خصوصياتها الثقافية وتحويلها إلى رافعة للتطوّر.

بعض الأمثلة في المنطقة العربية تُظهر الدور الكبير الذي يمكن أن تؤديه شراكات المدن المبدعة، فقد استفادت مدينة مراكش المغربية، العضو في فئة الحرف والفنون الشعبية، من الشبكة لتعزيز اقتصادها المحلي عبر تطوير الصناعات التقليدية وجذب السياح المهتمين بالتراث الثقافي الأصيل. وكذلك فعلت مدينة الدوحة، العضو في فئة التصميم، حين وسّعت حضورها عبر استضافة فعاليات محلية ذات أثر جماهيري، مثل الفعالية الثقافية الدولية "بينا خبز وملح".

أما على الصعيد العالمي، فالأمثلة أوضح وأوسع. فقد تمكّنت مدينة بورتو البرتغالية، العضو في فئة التصميم، من إعادة إحياء مناطقها الحضرية القديمة وتحويلها إلى مراكز جذب ثقافية، مساهِمة بذلك في تنمية اقتصادية واجتماعية لافتة. وفي آسيا، تُعد مدينة طوكيو اليابانية نموذجاً في مجال الفنون الرقمية، حيث تُوظَّف التكنولوجيا والابتكار لخدمة الفنون وتوسيع قاعدة الجمهور، مع الحفاظ على التوازن بين الحداثة والتراث.

تمثل شبكة المدن المبدعة فرصة واعدة للمدن العربية، لا سيّما في البلدان التي تشهد أزمات وحروباً. فالمدن في هذه البيئات تواجه تحديات معقدة، يجتمع فيها غياب السياسات الثقافية المؤثرة سابقاً، مع خضوعها لضغوط عولمية وعلاقات اقتصادية تضعف الهويات الثقافية لصالح الاستهلاك، فضلًا عن تعرّضها لتدمير جزئي أو كلي خلال النزاعات.

توفر الشبكة منصة للتواصل والتعاون مع نظيراتها حول العالم، مما يسهم في تبادل الخبرات والحصول على الدعم الفني والثقافي والاقتصادي اللازم لإطلاق مشاريع تُعيد الحياة إلى الأحياء المتضررة، وتحفّز الشباب على الإبداع. على سبيل المثال، يمكن لمدينة حلب السورية، بعد أن خرجت من ظروف الحرب، أن تطوّر برامج لإحياء الحرف التقليدية والفنون الشعبية التي تُشكّل جزءاً أصيلاً من تراثها، كما يمكنها تطوير مشروع انضمام إلى الشبكة في مجال فن الطهو، مما يخلق فرص عمل، ويُعيد بناء النسيج الاجتماعي.

بالإضافة إلى ذلك، تشجع الشبكة على استغلال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في دعم العمليات الثقافية، وهو ما يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة في ظل صعوبات التنقّل والوصول التي تفرضها الأوضاع الأمنية في مناطق النزاع. ومع ذلك، فإنّ العمل في هذه الظروف يتطلب جهوداً متضافرة بين الحكومات المحلية، والمنظمات الدولية، والمجتمع المدني، لضمان استدامة المشاريع الثقافية وتمكين المبدعين في ظل هشاشة البنى التحتية.

لذلك، فإن دعم شبكة المدن المبدعة لهذه المناطق لا يمثل دعمًا للثقافة والفنون فحسب، بل هو أيضاً دعم للأمل، والتعافي، والتنمية المستقبلية. ويبقى التحدّي الأكبر هو ألا تبقى هذه المبادرات حبيسة المؤتمرات والبيانات الختامية، بل أن تنعكس فعلياً في السياسات المحلية، وفي تمكين المبدعين، وفي حماية التراث الحي، وفي جعل الثقافة حقاً يوميّاً، لا امتيازاً نخبويّاً.


* كاتب وناقد سوري مقيم في فرنسا

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows