
في كل صيف، وعلى نحو أصبح تقليداً شبه راسخ في المشهد الفني القاهري، تتسابق غالبية الغاليريهات الخاصة على تنظيم معارض جماعية تضم أعمالاً لفنانين كثيرين من مختلف الأجيال والخلفيات والأساليب. وبينما تتفاوت العناوين والموضوعات التي تختارها هذه المساحات لمعارضها، يبقى القاسم المشترك هو الاعتماد على تنوّع الأسماء وكثرة الأعمال، ما يمنح هذه المعارض طابعاً احتفالياً أحياناً، وتسويقياً في أحيان أخرى. لكن خلف هذا التقليد المتكرّر يبرز سؤال محوري عن دافع هذه الغاليريهات إلى تكرار هذه الصيغة كل صيف، وهل تمثّل هذه المعارض فعلاً حراكاً فنياً صحياً، أم أنها مجرد استجابة لاعتبارات تجارية وظروف موسمية؟
تجمع شهادات الفنانين ومنظمي المعارض أنّ دوافع هذا التوجّه ليست فنيّة فقط، بل تحركها أيضاً اعتبارات السوق والمناخ الاجتماعي. ففصل الصيف في القاهرة معروف بحرارته المرتفعة، ما يدفع كثيراً من المقتنين المحليين، خصوصاً من الأثرياء أو المرتبطين بسوق الفن، إلى السفر خارج البلاد أو التوجّه إلى المدن الساحلية. نتيجة لذلك، تصبح حركة البيع والشراء راكدة نسبياً، ما يدفع الغاليريهات إلى البحث عن طرق تحافظ على حضورها في المشهد وتبقيها في دائرة الاهتمام العام.
لا يخلو المشهد الفني القاهري في هذا الصيف من معارض جماعية تملأ جدران الغاليريهات الخاصة بأعمال لفنانين من أجيال وخلفيات متباينة. من "35 عاماً من الفن المعاصر" في غاليري مشربية؛ الذي يبدو وكأنه احتفاء زمني موسع بممارسات فنية متعددة، إلى معرض "أوبونتو كمان وكمان" الذي يجمع تحت مظلته خليطاً من التجارب دون رابط واضح سوى اسم الغاليري نفسه.
هل هي مجرد استجابة لاعتبارات تجارية وظروف موسمية لا غير؟
وفي غاليري ياسين، اختار المنظمون عنواناً طموحاً هو "مساحة مختلفة"، بينما يلوح غاليري بيكاسو بـ"الجانب المشرق"، ويعلن غاليري آزاد عن معرض بعنوان "غسيل أبيض ناصع"، وكأن العناوين تحاول اجتذاب المتلقي بوعود فضفاضة أو استعارات عامة. جميع هذه المعارض تشترك في سمة واحدة، هي وفرة الأسماء وتعدد الأساليب، في تكدس بصري لا يمنح الأعمال مساحة كافية للتنفس أو للتمايز. وهي سمة تعكس، بشكل ما، منطق الكم على حساب النوع، حيث يصبح حضور العمل في المعرض هو الغاية، وليس ما يطرحه من أسئلة أو رؤى.
تُعد المعارض الجماعية وسيلة فعالة لأصحاب الغاليريهات، إذ تتيح حضور عدد أكبر من الفنانين في المعرض الواحد، ما يضمن زيارات من دوائرهم الاجتماعية المختلفة، كما تضاعف فرص البيع ولو بمعدلات منخفضة، نظراً لتنوع الأسعار وتعدّد الأذواق. هي صيغة توفر الحد الأدنى من النشاط دون التورط في مجازفة كبيرة، كما يحدث في المعارض الفردية التي تتطلب استثماراً أكبر في الإعداد والدعاية وتقديم تجربة متكاملة.
غير أنَّ لهذه المعارض الجماعية مآخذ فنيّة لا تخفى على المراقبين، فالكثافة البصرية والتنوّع المفرط في الأساليب والمضامين تجعل المتلقي في كثير من الأحيان عاجزاً عن التفاعل العميق مع الأعمال. تتراكم اللوحات على الجدران في تسلسل غير مدروس أحياناً، وتختلط الأسماء المعروفة بأخرى شابة تبحث عن موطئ قدم. فيبدو المعرض وكأنه حقل تجريبي جماعي لا يسعى إلا لملء الفراغ الصيفي.
كثيراً ما يُنظر إلى المعارض الجماعية الصيفية بوصفها أقرب إلى أسواق الفن، حيث تتحول صالات العرض إلى فضاءات مفتوحة تزدحم بالأعمال وتُقدَّم فيها التجارب الفنية كما لو كانت سلعًا تُعرض في واجهات البيع، لا بوصفها مقترحات جمالية أو رؤى ذات خصوصية. هذا التحوّل يعكس تغليباً واضحاً للمنطق التسويقي على الاعتبارات الفنية أو التربوية التي كان يُفترض أن تضطلع بها هذه المساحات. ففي مقابل المعارض الفردية التي تُبنى عادة حول فكرة أو سردية متماسكة، تميل المعارض الجماعية في موسم الصيف إلى تنحية هذا النوع من التخطيط لصالح التنوع والوفرة، على أمل اجتذاب أكبر عدد ممكن من الزوار والمقتنين. وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى انزياح الدور المفترض للغاليري من كونه مساحة نقدية تتيح التفاعل والتأمل، إلى مجرد وسيط لتصريف الأعمال، بغض النظر عن سياقها أو قيمتها الفنية.
من اللافت أيضاً أنَّ هذه الظاهرة تقتصر إلى حدٍّ بعيد على الغاليريهات المستقلّة والخاصة التي تعتمد في دخلها على مبيعات الأعمال الفنية. بينما تمتنع غالبية المساحات الفنية الممولة، سواء التابعة للدولة أو لمؤسسات ثقافية غير ربحية، عن الدخول في هذا النوع من النشاط الموسمي. إذ غالباً ما تتبنّى هذه المساحات والمؤسّسات غير الربحية برامج سنوية مخططة سلفاً، ولا تغيّر من وتيرتها لمجاراة تغيّرات السوق.
انزياح الدور المفترض للغاليري من كونه مساحة تتيح التفاعل والتأمل
يشير هذا إلى بُعد اقتصادي مهم، يتمثّل بأنّ الغاليريهات الخاصة لا تملك رفاهية التوقف الكامل عن النشاط حتى في الأوقات الراكدة، فهي تخضع لقواعد الربح والخسارة، وتحاول دائماً التكيف مع المزاج العام للشراء. أما المساحات الممولة أو العامة، فترى في الصيف فرصة لإقامة ورش أو برامج بحثية أو ندوات، بدلاً من المعارض، ما يعكس اختلافاً في فلسفة الدور الذي تلعبه كل مؤسسة فنية.
ظاهرة المعارض الجماعية الصيفية لا تقتصر على القاهرة وحدها. ففي بيروت، ورغم الأزمات السياسية والاقتصادية، تحرص العديد من الغاليريهات على تنظيم معارض مشابهة. أما في دبي، فتتحول بعض المساحات الفنية أحياناً إلى مساحات تعليمية صيفية، فتقيم ورش عمل ودورات فنيّة قصيرة بدلاً من المعارض، مستفيدة من الهدوء النسبي للسوق. لكن في الحالتين، تبدو البرامج الصيفية أكثر وضوحاً من حيث الهدف، وغالباً ما تُستخدم كأداة لبناء علاقات طويلة الأمد مع الجمهور، بدلاً من أن تكون مجرد محاولة لكسر الملل، كما تبدو عليه بعض المعارض القاهرية.
السؤال الذي يظل مطروحاً هنا هو: كيف يمكن لهذه المعارض أن تتحوّل إلى فعل فنّي له قيمته، لا مجرد عادة موسميّة؟ ربما يكون الحل في تبني مقاربات تنظيمية جديدة، تعيد الاعتبار إلى خبراء التنسيق الفني وتنظيم المعارض، وتمنح كل عمل المساحة التي يستحقها، حتى في المعارض الجماعية. وربما كان الأهم طرح السؤال على الغاليريهات نفسها، عن الدور الذي تلعبه هذه المساحات: هل هي مجرد وسيط للبيع، أم أنها شريك في صياغة الذائقة البصرية والفكرية للجمهور؟
في هذا الإطار، يدعو بعض النقاد إلى إعادة النظر في العلاقة بين السوق والفن، ليس بنفي وجود البعد التجاري، بل بإخضاعه لمنظومة قيمية تنظر للعمل الفني بوصفه أكثر من مجرد سلعة. فحتى في فترات الركود أو السفر أو تغير المواسم، يمكن للفن أن يظل حياً إذا ما استمر القائمون عليه في التعامل معه بوصفه شأناً ثقافياً أولاً، لا مجرد تجارة.
* كاتبة من مصر

Related News

