تحطيم تماثيل حتشبسوت... إلغاء القوة الرمزية
Arab
1 week ago
share

لأكثر من قرن، هيمنت صورة الملكة حتشبسوت بوصفها ضحيةً للطمس والتشويه على الروايات التاريخية. ورسّخ علماء المصريات هذا التصور حين ربطوا إزالة اسمها من النقوش وتحطيم تماثيلها بإرادة انتقامية من ابن أخيها وخليفتها، تحتمس الثالث، بدافع الغضب من امرأة استأثرت بالعرش. لكن دراسة حديثة تقلب هذه الفرضية رأساً على عقب، مقدمة تفسيراً أعقد، وأقل درامية.

البحث الذي نُشر في عدد يونيو/حزيران الماضي من مجلة Antiquity البريطانية، أنجزه الباحث جون يي وونغ خلال عمله باحثاً زائراً في قسم الفنون المصرية في متحف متروبوليتان في نيويورك. يعتمد وونغ في تحليله على أرشيف غير منشور من حفريات العالِم هربرت وينلوك التي أجراها في عشرينيات القرن الماضي، في معبد حتشبسوت في الدير البحري في الأقصر، إلى جانب فحص دقيق لحالة التماثيل ومواضع العثور عليها.

كانت حتشبسوت أرملةً شابة حين توفي زوجها تحتمس الثاني، وعُيّنت وصيةً على العرش نيابة عن ابن زوجها من زوجة أخرى. وبعد سبع سنوات من الوصاية، أعلنت نفسها حاكمة لمصر رسمياً، لتصبح واحدة من قلة نادرة من الملكات حملت ألقاب الفراعنة الذكور، وحكمت لنحو 15 عاماً. بعد وفاتها نحو عام 1458 قبل الميلاد، ظهرت مؤشرات قوية على حملة ممنهجة لمحو ذكراها، إذ حُذف اسمها من النقوش على المعابد، أما تماثيلها، فقد كُسرت أو اختفت.

لكنّ وونغ يقدّم سرداً مغايراً، فبينما يشير إلى أن حتشبسوت تعرّضت بالفعل لما يسميه المؤرخون بالتجريم السياسي بعد الوفاة، إلا أن الأدلة التي كشفها تؤكد أن كثيراً من التماثيل التي نُسب تحطيمها إلى الحقد أو الانتقام، قد تكون في الحقيقة خضعت لعملية تُعرف في المعتقدات المصرية القديمة باسم "إلغاء القوة الرمزية". في تلك العقيدة، لم تكن التماثيل مجرّد أشكال زخرفية، بل كائنات حية رمزياً، تحمل جزءاً من قوة الشخصية التي تمثلها. وبالتالي، كان تحطيمها طقساً ضرورياً لتعطيل هذه القوة، خصوصاً عند انتقال السلطة. يجري هذا التعطيل عادة عبر كسر التمثال في نقاط الضعف، مثل الرقبة والخصر والركبتين. أما الوجه، فيُترك غالباً سليماً، وهو ما يبدو أنه حدث مع عدد كبير من تماثيل حتشبسوت.

تشير الدراسة إلى أن التماثيل التي نُحتت لتزيّن معبد حتشبسوت الجنائزي كانت من أنواع ثلاثة: تماثيل معمارية ضخمة كانت مدمجة في البناء، وتماثيل على هيئة أبو الهول، وتماثيل أخرى قائمة بذاتها. ووجد وونغ، عبر تتبّع مواضع العثور على التماثيل، أن كثيراً منها لم يُحطَّم دفعة واحدة، بل فُكّكت جزئياً، وتُرك بعضها مكشوفاً لفترات طويلة. ووُجدت شظايا من هذه التماثيل مبعثرة في مواقع متفرقة، إذ عُثر على بعضها داخل محجر قرب المعبد، حشوةً في جسر يؤدي إلى معبد تحتمس الثالث، ووجدت أخرى في قبور ومبانٍ من الطوب، بل وفي بعض المنازل المبنية لاحقاً قرب الموقع. كذلك فإن كثيراً من التماثيل حُوّلت إلى أدوات أو أعيد استخدامها لتكون مادة بناء. اللافت هنا أن عدداً من هذه التماثيل نُقل من دون أن تُمسّ وجوهها، ما يناقض فكرة التحطيم المتعمّد للملامح. وفي المقابل، فإن التماثيل التي وُجدت بوجوه مشوّهة تعود في معظمها إلى فترات لاحقة، ما يرجّح أن الضرر اللاحق بها ليس بالضرورة من فعل تحتمس الثالث.

ولكن، لمَ طُمست بعض التماثيل، ولم تُمسّ أخرى؟ يشير أحد الاكتشافات اللافتة في الدراسة إلى أن التماثيل القائمة بذاتها، والمصنوعة من حجارة صلبة كالديوريت أو الغرانيت، كانت أكثر احتفاظاً بوجوهها من التماثيل المعمارية التي كانت مُركّبة ومكوّنة من كتل حجرية. ويعود ذلك، وفقاً للتحليل، إلى طبيعة البناء، فأجزاء الجسد كانت منتظمة وسهلة التدوير بوصفها مادة بناء، بعكس الرؤوس ذات التفاصيل المعقدة. أما تماثيل أبو الهول، فقد اقتُلعت وأُعيد استخدامها، ففي بعض الحالات حُوّل إلى أعمدة، وهو ما يفسّر فقدان أغلبها لقاعدتها أو لأجزاء منها.

يقرّ وونغ بأن إزالة اسم حتشبسوت من النقوش كانت خطوة محسوبة من تحتمس الثالث، لكنها لا تعني بالضرورة انتقاماً شخصياً. فالصور التي نملكها عن حتشبسوت كثيراً ما تكون محمّلة بانطباعات مسبقة تتعلق بجنسها، لكن الدوافع وراء أفعال تحتمس الثالث تبدو أعقد مما نظن. وبالفعل، فإن صورة الفرعون الغاضب من امرأة حكمت مكانه، تبدو أقل إقناعاً حين نُقابلها بالأدلة المادية التي تشير إلى أن ما جرى كان أقرب إلى طقس انتقالي، أو إلى إجراء عملي لإعادة استخدام مواد نادرة، أكثر منه فعلاً انتقامياً من امرأة تحدّت النظام.

وبحسب الدراسة، فإن الضرر الذي لحق بتماثيل حتشبسوت نتج من مزيج من عوامل متداخلة؛ لذلك، فإن التفسير الذي يربط كل هذا العنف الرمزي بكراهية النساء يبدو واهياً، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى المكانة التي تمتعت بها المرأة في الحضارة المصرية القديمة. لم تكن تماثيل حتشبسوت فقط ضحيةً للسياسة، بل أيضاً لاحتياجات البناء، وتقلبات الزمن، وأحكامنا المعاصرة المسبقة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows