
فرق كبير بين أن يكون التطبيع ثمناً يُدفع لمساندة الفلسطينيين، وبعد تحقيق مطالبهم، وأن يكون على جثثهم. وما يجري تداوله حالياً (للأسف!) أقرب إلى الملهاة المبتذلة، التي تريد إقناع جمهورها بأن وقف العدوان الوحشي (وغير المسبوق) على قطاع غزّة إنجاز كبير في حدّ ذاته، يستحقّ أن تُدفع الأثمان من أجله، ومنها إقامة علاقاتٍ مع إسرائيل.
منذ اتفاقات أبراهام (2020) بين الإمارات والبحرين من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، قبل أن ينضمّ كل من السودان والمغرب إلى قافلة مَن وصفهم وزير الخارجية المصري الأسبق عمرو موسى بالمهرولين، والمبدأ الذي قامت عليه الفكرة نفسها في قمّة بيروت عام 2002، وهو التطبيع الشامل مقابل دولة فلسطينية، يتفكّك ليصبح المبدأ: "السلام مقابل السلام"، ولأهدافٍ لا تتعلّق بما كانت تسمّى القضية المركزية. فمقابل اعتراف واشنطن بمغربيّة الصحراء الغربية، طبّعت الرباط مع تل أبيب، وهو ما فعله رئيس المجلس العسكري في السودان عبد الفتّاح البرهان لأهداف تتعلّق بترجيح كفّته داخل الخرطوم.
في معرض تمهيده وتمجيده لاحقاً لإقامة علاقات مع إسرائيل، كتب سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة مقالَين في "يديعوت أحرونوت" عام 2020، تحدّث في أولهما عن إيمان بلاده بأن إسرائيل "فرصة" وليست عدواً، وكان ذلك قبل إعلان التطبيع، وفي الثاني، الذي كتبه بعد التطبيع، دافع بحماسة بالغة عن خطوة بلاده، بالقول إنها أوقفت ضمّ الأراضي الفلسطينية، وكان يتحدّث في حينه عن خطط لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضمّ نحو 30% من أراضي الضفة الغربية. ورغم أن الضمّ لم يتوقّف، وكذلك العدوان، منذ ذلك الوقت، بل ازداد توحّشا، إلا أن أبوظبي لم تتراجع عن علاقاتها مع تل أبيب، فالأخيرة "فرصة" ظفرت بها الإمارات وتمسّكت بها، وسوى ذلك كان ذرائعَ ليس إلا.
مرّة أخرى، تعود الذرائع نفسها، فلمساعدة الفلسطينيين (في حالة العتيبة: وقف ضمّ الأراضي) تُسوّق موجة تطبيع جديدة مقابل وقف العدوان على غزّة، والأخير هدفٌ نبيل ولكنّه جزئي، ويفترض أن يتحقّق بضغوط سياسية يقوم بها المطبّعون أنفسهم، ومنها التهديد بقطع العلاقات أو تخفيضها، لا ضمّ مزيد منهم إلى "البيت الإبراهيمي"، ما يعني النأي أكثر بالقضية الفلسطينية نفسها عن التطبيع، الذي أصبح يتحرّك في مسار منفصل، ثنائي بين دولتَين ولأسبابٍ تخصّهما، وعلى حساب ما يُعلَن (ويُسوَّق) أنه لإسناد الفلسطينيين، بينما هو يُضعفهم ويختزل قضيتهم في جانب إنساني لا سياسي، وهو السماح بإدخال المساعدات، أي إرجاع القضية الفلسطينية مائة عام إلى الوراء، بزعم التضحية من أجلهم والاضطرار إلى التطبيع مع إسرائيل لصالحهم. ... أي إفكٍ هذا؟!
ينبغي التفريق بين ما هو استراتيجي (إقامة دولة فلسطينية)، وما هو جزئي لا تُبنى عليه رهاناتٌ كبرى، ما لم يُستثمر على نحو خلّاق (وقف إطلاق النار)، وعدم إهدار الأول (وهو هدف ثمين ويستحقّ) لصالح الثاني، الذي يمكن تحقيقه بوسائل أخرى، والظنّ أن ثمّة حائطَ صدّ حقيقياً بينهما أحدثته دولةٌ تعي مكانها ومكانتها في العالم، وهي السعودية، التي يُعوّل عليها حالياً أكثر من أي وقت مضى لوقف هذا الخلط والعبث وإهدار الفرص التي تلوح لإقامة دولة فلسطينية.
يريد ترامب أن يتوّج مسيرته السياسية بجائزة نوبل للسلام، وربّما يظن أن مؤتمراً صحافياً يعقده، ويُعلِن فيه وقفاً لإطلاق النار في غزّة، كفيلٌ بتحقيق هذا، لكن عليه أن يعرف أن تدخّله لوقف الحرب بين الهند وباكستان بلا معنى كبير، خصوصاً أنهما كانتا تنتظران أيّ تدخل خارجي لوقف اشتباكاتهما، وأنه لا إنجاز كبيراً (وإن كان مفاجئاً) في إعلانه، في وقف القتال بين إيران وإسرائيل، فالحرب لم تنتهِ فعلياً، بل توقّفت، وأسباب استئنافها في تزايد، والمعنى الحقيقي يكمن في حلّ جذري لسبب كلّ الصراعات في المنطقة، وهو الاحتلال الإسرائيلي، وما لم يفعل ترامب ذلك، فإنه لا يستحقّ "نوبل" ولا سواها، وسيكون كمن طبّع مع إسرائيل لتغليب حظوظه في الصراع على خصمه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فلا سلاماً أنجز ولا نصراً حقّق، بل شرّد مئات آلافٍ من مواطنيه، وقتلهم، من دون أن يتلقّى حتى برقية مؤازرة أو مواساة من نتنياهو.

Related News

