
لم يعد السباق على جذب الاستثمارات التقليدية أو الصناعات الملوثة هاجس الدول ومساعي الحكومات، بل بدّل شكل الإنتاج والطلب وحجم نمو وأرباح شركات الخدمات والتكنولوجيا، وحتى الإعلام والدراما، من وجهة الدول وخططها في الترويج، فحين نعلم أن حجم سوق خدمات تكنولوجيا المعلومات بلغ نحو 1.20 تريليون دولار في عام 2024، سنعي لماذا تُرحّل الدول المتطورة بعض الصناعات الملوّثة إلى الدول النامية وتحمّلها المنّة، لتتفرغ لجذب الأهم والأكثر ربحاً وتحريضاً على النمو ومواكبة التطورات.
وحين نعرف أن صناعة الدراما التلفزيونية والأفلام السينمائية في الولايات المتحدة الأميركية يعمل فيها ما يقرب من 2.4 مليون شخص، ما يزيد عن نظرائهم في قطاعات التعدين، أو استخراج النفط والغاز، أو القطاع الزراعي، سنغيّر رأينا ونظرتنا حول القطاعات الأكثر استيعاباً للعمالة وتقليلاً للبطالة. وإن عرفنا أن تلك الصناعة بالولايات المتحدة تحقق أكثر من 261 مليار دولار، تصدّر منها ما قيمته نحو 15 مليار دولار وتدفع إجمالي ضرائب يزيد عن 29 مليار دولار سنوياً، سنُعيد حساباتنا بالقطاعات القاطرة والأكثر مساهمة في الناتج أو الرافدة للخزينة العامة.
وإن لم نبتعد بالمثال عن سورية، جغرافيا وتطوراً، فسنعرف أن الجارة تركيا تُنتج 60 مسلسلاً وفيلماً سينمائياً سنوياً، وصادراتها من هذا القطاع نافت 500 مليون دولار، بعد أن وصل إنتاجها الدرامي إلى نحو 170 دولة في آسيا وأوروبا والبلقان وأميركا الجنوبية. وإلى الآن، لم نتكلّم عن الإعلام، سواء لجهة جذب الاستثمارات وتشغيل العمالة، أو ما هو أهم؛ ما يتعلق بنقل الثقافة والترويج للخطط وحتى السياسة والحروب الحديثة، بما يسمى القوى الناعمة، أي قدرة الدولة على الجذب لنظامها، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي طوعاً، من خلال التأثير عبر الأدب والفن والإعلام، فتصل إلى درجة الإقناع بما تريده لينفّذه الآخر، متعاوناً راضياً من دون إكراه، ومن دون استخدام القوى الصلبة التقليدية، كالحرب والسلاح.
تركيا تُنتج 60 مسلسلاً وفيلماً سينمائياً سنوياً، وصادراتها من هذا القطاع نافت 500 مليون دولار، بعد أن وصل إنتاجها الدرامي إلى نحو 170 دولة في آسيا وأوروبا والبلقان وأميركا الجنوبية
قصارى القول: سورية التي أصدرت قانوناً للمطبوعات والإعلام عام 1949 ووصل عدد المطبوعات فيها إلى 52 مجلة وجريدة، قبل أن تبثّ عبر ثاني إذاعة، بعد "صوت العرب" المصرية عام 1958، وتؤسس التلفزيون عام 1960، لا يوجد فيها اليوم سوى مطبوعة ورقية محلية وثلاث جرائد إلكترونية، وتفتقر إلى أي استثمار إعلامي خاص، مرئي أو مسموع أو حتى مطبوع. وحتى على صعيد الدراما، وبعد أن تحوّلت إلى صناعة غزت غرف نوم دول المنطقة ووصل إنتاجها إلى 31 مسلسلاً، عاودت التراجع في المستوى والجماهيرية وتقلّصت بالعدد، بالإضافة إلى هجرة ألمع كفاءاتها خلال الحرب على الثورة، من كتاب دراما ومخرجين وممثلين.
ليأتي الأمل باستعادة المجد وتطوير القائم أمس، بعد أن وقّعت وزارة الإعلام السورية مذكرة تفاهم مع شركة "المها" الدولية، لإنشاء أول مشروع استراتيجي واعد ومتكامل لمدينة إنتاج إعلامي وسينمائي وسياحي، باسم مدينة "بوابة دمشق"، يُقام على مساحة مليون متر مربع ضمن امتداد العاصمة دمشق، ويشمل استوديوهات خارجية تحاكي طراز العمارة التاريخية في المدن العربية والإسلامية، واستوديوهات داخلية مزوّدة بأحدث تقنيات البث، بتكلفة تقدّر بنحو 1.5 مليار دولار، ليوفر المشروع أكثر من 4000 فرصة عمل مباشرة، و9000 فرصة عمل موسمية.
أمّا بشيء من التفصيل السريع، فاستثمار "بوابة دمشق" سيكون قاطرة لمهن عدة ومركز تطوير لأعمال كثيرة وبؤرة تحريض لما بعده، على صعيد تأصيل صناعات الفن والثقافة والإعلام، فأن يحوي المشروع تسع مدن تصوير "دمشق القديمة، مكة، المدينة المنورة، القاهرة، القدس وغيرها" فهذا يعني استقطاب تصوير الأعمال الدرامية العربية، أو التاريخية التي تحتاج إلى تلك المدن ضمن سيرتها وقصتها.
وأن يتطلّع المشروع لبناء ربما ألف استوديو، فهذا يعني استقطاب تلفزات ومكاتب لمحطات عربية ودولية وبنية تحتية مجهزة لاستثمارات وأعمال مرئية، لينقلب حال سورية من بلد ضيّع مجده وتاريخه الإعلامي إلى مركز لجذب التلفزات والمشاريع الإعلامية بالمنطقة. ويعرف من يطلع على الإنتاج الإعلامي والدرامي والسينمائي أن ذلك الإنتاج يمر بمراحل تصنيع، إن جازت التسمية، تحتاج خطوط إنتاج وعمالة، في البناء والنقل والديكور والنحت والنجارة والحدادة والخياطة ومهن وأعمال أخرى، ستزيد من تأمين فرص العمل والتأهيل، ما يفوق ما قاله طرفا الاتفاق بالأمس.
استثمار "بوابة دمشق" سيكون قاطرة لمهن عدة ومركز تطوير لأعمال كثيرة وبؤرة تحريض لما بعده، على صعيد تأصيل صناعات الفن والثقافة والإعلام
هذا إن لم نأخذ احتياج الأعمال الفنية لمراكز تجارية وأسواق وفنادق ومنتزهات، وكل ما تحتاجه مشاهد الأعمال أو الجموع وكوادر التمثيل والكومبارس التي ستقيم في مدينة الإنتاج الأضخم، على صعيد المنطقة، وربما هذا ما دفع سورية بالأمس إلى أن تُدرج السياحة في القطاعات التي ستضمّها بوابة دمشق، وأغفلت ربما التعليم، لأنّ مدينة إنتاج وأحلاماً كهذه واستثماراً كهذا سيحتاجان فيما يحتاجان إلى كليات ومعاهد تعليم وتأهيل، لتكتمل الدائرة وفرص الاستفادة من الكوادر السورية. ك
ما يعرف من يتابع أسعار الأعمال الدرامية والسينمائية، أو حتى أجور النجوم وتكاليف الدقيقة حتى تظهر للمشاهد، أن الإنفاق الكبير حتى تخرج الأعمال إلى النور سينعكس على إنعاش السوق السورية الداخلية، سواء لجهة السياحة خارج مدينة الإنتاج، لما يعرف عن سورية من جمال ومواقع تاريخية، أو تبضّع وتسوّق من أسواق بلد اشتهر عبر قرون بصناعة وزراعة وخدمات، يأتي الأكل السوري في مقدمتها، الأمر الذي سينعكس على انتعاش الاقتصاد الكلي وتوازن المعروض النقدي الأجنبي وتحسين سعر صرف الليرة.
نهاية القول: يقتضي المنطق عدم الإفراط بالآمال، قبل ترجمة الاستثمار على الأرض والتأكد من جدية المستثمر وعدم استغلال مرحلة الانفتاح بسورية أو حتى حضور رئيس الدولة شخصياً، خلال التوقيع على المذكرة. كذلك يقتضي المنطق والجذب تأمين المناخ والبنية، القانونية والتحتية، بمعنى، لا بدّ من توفير كل مستلزمات مدينة الإنتاج وعدم النظر إليها كقط من خشب، يصطاد من دون أن يأكل أو ينفق. فالتسهيلات خلال التراخيص منطلقاً، وإغراء تخفيض الضرائب وإبعاد كل ما من شأنه تكريه المستثمرين، من فساد وسمسرات وتدخل، مطلب، وتخصيص جزء من الشق الاستثماري بالموازنة العامة لتأمين ما بعد وحول مدينة الإنتاج غاية. والغاية ليست فقط استثمار ما ستولده عمليات الإنتاج وصناعة الثقافة والترفيه والمعرفة داخل المدينة، بل إيجاد تكامل مع ما حولها وإضفاء عامل جذب لما بعد الاستثمار الكويتي الذي سيساهم بتسريع عملية البناء، بناء التخصص وأدوات المستقبل وصناعات رابحة من دون دخان.
وكل هذا من دون أن نأتي على ما سيوفّره المشروع "الاستراتيجي عملياً" من قوة ناعمة وتسويق أفكار وخطط تخدم المشروع السوري البعيد الذي يتطلع إليه الرئيس أحمد الشرع، والذي أحسّ ولا شك بأهمية الاستثمار ودوره، فعقد جلسة حوار وتدارس لمعرفة الموجب والسالب فيه، قبل أن يحضر شخصياً توقيع الاتفاق ومباركته.

Related News


