
منذ أكثر من قرن، حيرت العلماء معضلة تطورية جوهرية: كيف انتقلت الثدييات من مشية الزواحف المنبسطة إلى وضعية المشي المنتصب مثل القطط والكلاب؟ هذه النقلة، من وضع الأطراف الممدودة جانباً (كما في السحالي) إلى وضع الأطراف تحت الجسم، كانت لحظة فارقة في تطور الثدييات.
لكن دراسة جديدة نشرت يوم 24 يونيو/حزيران الماضي في دورية PLOS Biology تقلب هذه الفرضية رأساً على عقب، بحسب روبرت بروكلهيرست (Robert Brocklehurst)، زميل أبحاث سابق في قسم الأحياء العضوية والتطورية في جامعة هارفارد، وقائد فريق البحث الذي يؤكد أن التحول نحو المشية المنتصبة لم يكن خطياً كما كان يعتقد، بل كان مليئاً بالمنعطفات والتجارب التطورية المثيرة.
يعتقد الفريق البحثي أن هذه الدراسة لا تسلط الضوء على الماضي فقط، بل تفتح آفاقاً لفهم التنوع الحيواني والحركي في المستقبل، وتؤكد أن مسار التطور ليس دائماً خطاً مستقيماً، بل رحلة مليئة بالمفاجآت. يقول روكلهيرست في تصريح لـ"العربي الجديد": "كان يعتقد أن تطور المشي لدى الثدييات حدث عبر مراحل تدريجية، من مشية منبسطة إلى شبه منبسطة ثم إلى مشية منتصبة بالكامل، لكننا وجدنا أن المسار كان أعقد وأكثر تنوعاً مما كنا نتخيله".
لفهم هذا التحول، حلل الفريق البحثي عظمة العضد (العظمة العليا في الذراع) لأكثر من 60 أحفورة من أسلاف الثدييات غير الثديية، إضافة إلى 140 نوعاً من الحيوانات الحية من الثدييات والزواحف والبرمائيات. استخدم الفريق تقنية تحليلية جديدة تتيح قياس خصائص دقيقة، مثل طول العظمة وتوزيع الكتلة وقدرة العضلات على الحركة ودرجة التواء العظمة. من خلال هذه التقنية، تمكن الباحثون من إسقاط الأحافير على "منظر وظيفي تكيفي"، يشبه الخريطة الطبوغرافية التي تظهر مستويات الأداء المختلفة لوضعيات المشي.
وكانت النتائج مفاجئة، إذ لم تظهر تحولاً تدريجياً واضحاً، بل كشفت عن موجات من الابتكار التطوري. "كنا نتوقع أن نرى تسلسلاً واضحاً يبدأ من الزواحف القديمة ذات المشية المنبسطة، ثم يتدرج عبر أسلاف الثدييات نحو المشية المنتصبة، لكن ما رأيناه كان تنوعاً كبيراً، مع بعض الأنواع التي طورت قدرات مشابهة للثدييات الحديثة، وأخرى لم تقترب منها إطلاقا"، يضيف بروكلهيرست.
أحد الاكتشافات المثيرة كان أحفورة لقريب بعيد من الجرابيات والمشيميات (التي تشمل البشر) أظهرت سمات عظمية تتماشى مع مشية منتصبة حديثة، ما يعني أن الوضعية المنتصبة لم تكن سمة مبكرة في سلالة الثدييات، بل جاءت متأخرة نسبياً. يقول قائد فريق البحث إن هذه النتائج تناقض الفرضية القديمة بأن الوضعية المنتصبة ظهرت مبكراً، وتدل على أنها كانت ابتكاراً تطوريا متأخراً لا سمة تعريفية أصيلة للثدييات.
تنتقد الدراسة أيضاً التصور الشائع بأن أسلاف الثدييات غير الثديية مشت، مثل السحالي أو التماسيح. فبحسب بروكلهيرست، تبين أن معظم أطراف السينابسيدات – أسلاف الثدييات – عملت بطريقة تختلف عن الزواحف الحديثة، إذ لم تكن نسخاً بدائية من السحالي، بل كائنات متميزة بذاتها. يوضح الباحث أنه من الناحية التقنية، واجه الفريق تحديات كبيرة بسبب تنوع شكل العظام واختلافها الزمني بمئات الملايين من السنين. وللتغلب على ذلك، أعادوا برمجة حزمة برمجية في لغة R لتصبح أداة جديدة تُسمى "العنونة المقطعية"، سمحت بمقارنة العظام المختلفة بدقة عالية.
ويشدد على أن "نتائج الدراسة لم تأت من فراغ، بل بُنيت على إرث علمي طويل في جامعة هارفارد ومتحف علم الحيوان المقارن، فسبق أن ناقش علماء بارزون مثل ألفريد رومر وفاريش جنكينز هذه الأسئلة قبل قرن من الزمان". ورغم أهمية النتائج الحالية، إلا أن الباحث يشير إلى أنها ليست سوى البداية، فالفريق يخطط في المستقبل القريب لبناء نماذج رقمية مفصلة لأطراف بعض الأحافير المختارة لفهم كيفية عمل المفاصل والعضلات فيها. يهدف هذا المخطط إلى "تقديم رؤية أعمق حول كيفية تحرك الحيوانات القديمة، وكيف تكونت الحركات التي تميز الثدييات اليوم".
يختم بروكلهيرست بقوله: "فهمنا لكيفية مشي الثدييات المنتصب لا يتعلق بالعظام فقط، بل هو نافذة لفهم التاريخ الديناميكي للحياة على كوكب الأرض".

Related News


