
أظهرت قطاعات من المصريين تضامناً لافتاً مع إيران في مواجهة العدوان الإسرائيلي، الذي بدأ بهجوم جوي واسع النطاق، أطلق عليه ترامب، لاحقاً، حرب الاثني عشر يوماً، وأعلن إنهاءها بعد ضرب ثلاث منشآت للبرنامج النووي بقنابل خارقة للتحصينات، هدفت إلى تعطيل قدرات إيران على تصنيع أسلحة نووية، بينما تسعى إسرائيل عسكرياً إلى تدمير البرنامج وإعاقة إنتاج الصواريخ الباليستية وتطويرها، وضرب البنية الدفاعية الإيرانية، لتحافظ على تفوّقها العسكري، ضمن حصار أي قوة مناوئة. وهو النهج الذي ترجمته عملياً في محطّات العدوان على عدة دول عربية، وتدمير قطاع غزّة، واستمرار قتل سكانه العزل وحصارهم من دون أي سبل للحياة، في حرب إبادة. وفي حربها مع إيران تستهدف سياسيّاً إسقاط النظام، أو على الأقل ضرب استقراره وإضعافه إقليميّاً.
من هذا المشهد المركب، تفاعل المصريون مع الأحداث بكثافة: أحاديث ونقاشات، وعلى وسائل التواصل، انخرط آلاف في المتابعة، والنشر بشكل متدفق، مع ظاهرة لافتة بالتوجه المتزايد إلى تحليل ما يجري، وهو ما يكشف حالة اهتمام واسع، ويترجم رغبات للمعرفة، والحوار حول الشأن السياسي الإقليمي والمحلي، بما لا يعكس فقط موقفاً عاطفيّاً بمنطق "عدو عدوي صديقي"، بل أيضاً وعياً بخطورة العدوان، وعلاقته بنهج توسّعي إسرائيلي ضمن محاولات إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، وما قد يترتب عليه من تأثيرات. وهنا التقت عوامل العداء التاريخي للمصريين لإسرائيل مع النزوع الوطني، في تشابكٍ مع ما يجري من جرائم يرتكبها الاحتلال على الساحة الفلسطينية في غزّة والضفة الغربية.
ورغم أن الهجمات على إيران لم تكن مفاجئة، فإن نطاقها وتكلفتها كانا كبيريْن، وشملت أيضاً سلسلة من الاغتيالات والعمليات من داخل إيران، طاولت قيادات عسكرية وسياسية وعلماء، لا تشير إلى مجرّد اختراق أمني نفذه الموساد (وربما أطراف أخرى) بل أيضاً إلى هشاشة داخلية، لا تصلح آليات الضبط والمراقبة في معالجتها. وهو ما تابعه بعضهم آملين في عدم انكسار إيران أو إسقاط نظامها بالقوة العسكرية، والمجيء بمن يستلم السلطة من بدائل تروّجها إسرائيل، منذ ثلاث سنوات، منهم رضا بهلوي الذي تستقبله دوائر رسمية إسرائيلية وتنسّق معه. وربما زاد مجمل المشهد من الشعور بوجود مؤامرة متعدّدة الأطراف، تذكّر بما جرى في العراق، وهذا زاد من حالة الاصطفاف مع إيران، وتراجعت نبرة الشك والارتياب التي كانت تتكرّر في توصيف أي مواجهة بينها وبين إسرائيل كمسرحية، ومواجهة بلا مصداقية.
رغم تفاوت القدرات العسكرية (وربما الاستخدام المحدود)، كانت ردود إيران محلّ ترحيبٍ شعبيٍّ يصل إلى حد الاحتفاء
ومع إدراك عوامل التأثير للمواقف الرسمية وحالات التوجيه الإعلامي التي يمارسها النظام أحياناً ويوظفها لكي يظهر موقفاً ضد إسرائيل، هناك تباينٌ بين المستويين، الشعبي والرسمي، من حيث المنطلقات التي تنعكس في اللغة، ومحكومة، في جانب منها، بدور الدولة التي تنخرط في علاقات مع أطراف متعدّدة، وتراعي توازنات إقليمية معقدة، بينها علاقتها بدول الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فيصدر خطاب ينطلق من رفض التصعيد، يُعبّر عن القلق من اتساع رقعة الحرب، ويعلن عن سياسةٍ لا تنحاز لطرف، أو ما يسمّى "حياداً نشطاً"، يحاول عبر الدبلوماسية والوساطة رفض التصعيد، وليحافظ على استقراره من دون الانزلاق إلى وضع يُحدث أعباءً مستجدّة اقتصادياً وسياسيّاً وأمنيّاً بتأثير الصراع على ملفات عدّة.
بينما تجيء مواقف شعبية واضحة في لغة التعبير والانحياز والتوجّه، وتظهر في أغلبها تضامناً مع إيران، مدفوعاً سياسيّاً بالعداء المتجذر تجاه إسرائيل، وبالشعور بالإحباط من العجز العربي في وقف المجازر في غزّة، بما يجعل التعبيرات لا لبس فيها، من حيث إعلان التعاطف مع من يقاوم إسرائيل، وتوصَف الولايات المتحدة حليفاً وشريكاً في كل اعتداء على دولة عربية. وبالمثل، ورغم أي اختلافات سياسية ومذهبية، تُرى إيران طرفاً يتعرّض للعدوان. وبذلك، يرحّب الموقف الشعبي في أغلبه بكل ردّ، ويستقبله بالترحيب والاحتفاء بصور عدة ملحوظة وممتدة، غير قاصرة على القاهرة والمراكز الحضرية. وترى قطاعات واسعة أن هذا النهج يحد من سقف الغطرسة الإسرائيلية ويهز مصداقية "أسطورة الردع" والتخويف من إسرائيل، ويساهم في التوازن بين قوى الشرق الأوسط، وبينها مصر. وإن كانت التعبيرات المؤيدة لإيران تحمل في لغتها طابعاً وجدانياً معبراً عن حالة القهر التي أحدثتها الحرب على غزّة وتأثيراتها النفسية، فإنها لا تكترث كثيراً بفارق القدرات بين القوتين في المواجهة، وتعبّر عن حالة من التمنّي بانتصار إيران على مخططات تحاول فرض الإذعان عليها. وهو ما يبدو في الساحة المصرية مختلفاً نسبيّاً مع توجّهات لدى نخب وجمهور دول أخرى تدخّلت طهران في شؤون بلادهم، وبينهم سوريون تعرّض أهلهم للتهجير والقتل، بينما لم يرَ المصريون من إيران سياساتٍ تشير إلى عداء أو ترصُّد بهم، وغالباً ما يُنظر إليها منافساً إقليمياً، وليست مصدراً لتهديد الاستقرار بالمنطقة قياساً بإسرائيل والولايات المتحدة، ولا يمكن مقارنتها بدولة الاحتلال، التي يعتبرها المصريون مصدر التهديد الأكبر، بحسب استطلاعات رأي عدة خلال سنوات سابقة.
وعموماً، يتأثر الموقف العربي من طهران بمدى ما تشكّله من تهديد لكل دولة، وكذلك بالسياقين السياسي والإقليمي. وقد أظهر استطلاع الرأي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2024) حول الحرب على غزّة أن 48% من المستجيبين (8 آلاف من 16 دولة) عبّروا عن موقفٍ إيجابيٍّ تجاه موقف إيران من الحرب، مقابل 37% عبّروا عن رأي سلبي. وفي سياق الحرب بين إسرائيل وإيران، وجد قطاعٌ من المصريين دولة تجابه الاحتلال، لذا كانوا يصطفّون معها، وينتظرون نتائج ضرباتها الصاروخية وآثارها، ويصدّقون ما تبثه وسائل إعلامها من أخبار ورسائل، ويرجّحون مصداقيتها. ورغم تفاوت القدرات العسكرية (وربما الاستخدام المحدود)، كانت ردود إيران محلّ ترحيبٍ شعبيٍّ يصل إلى حد الاحتفاء.
تقاطعت بيانات قوى سياسية، وتغطيات إعلامية، ومواقف رسمية، في مصر، في إدانة العدوان الإسرائيلي، وحقّ إيران في الرد، وكان واضحاً التضامن معها
وتقف خلف هذا الموقف حاجةٌ إلى الإحساس بالقوة والقدرة على الرد على المحتل، وأن يُجرّب، ولو بشكل محدود، أثر الحرب، في ظل استمرار جرائم الإبادة على غزّة، ووسط عجز من كل الجهات عن وقف العدوان عليها، أو حتى عن إيصال الطعام والدواء للمحاصرين. ومن هنا، ولّدت ردود إيران إحساساً بالندّية حتى من طرف غير عربي، ما يعيد، ولو رمزيّاً، الشعور بالكرامة والانتصار، لدى جمهورٍ يرى تغوّلاً إسرائيليّاً غير مسبوق. وهنا يُحتفى بردّ إيران العدوان، وقدراتها في استهداف دولة الاحتلال، ومنشآتها العسكرية والاقتصادية، بهذه الكثافة. وقد تقاطعت بيانات قوى سياسية، وتغطيات إعلامية، ومواقف رسمية، في إدانة العدوان الإسرائيلي، وحقّ إيران في الرد، وكان واضحاً التضامن معها، الذي تجاوز خلافات مذهبية أو سياسية، بالتركيز على أن إسرائيل تهديد حال، يسعى ليس فقط إلى التفوّق العسكري، بل إلى الهيمنة على المنطقة.
وعلى المستوى الرسمي، كان موقف القاهرة واضحاً، ترجمته بيانات رسمية، واتصالاتٌ دبلوماسيةٌ بين مسؤولي البلدين، بما فيها تأكيد وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، في اتصال مع نظيره الإيراني، عباس عراقجي، رفض مصر للهجمات، كما نقل رسالة رسمية بعدم سماح مصر باستغلال مجالها الجوي في أي عملياتٍ تستهدف مصالح إيران. وبخطاب قوي، دان سفير مصر في الأمم المتحدة، أسامة عبد الخالق، "الحلف الأميركي الإسرائيلي"، وهاجم حق النقض (الفيتو) وحمّل إسرائيل مسؤولية جرائم الحرب في غزّة. وفي موقف مماثل، دان شيخ الأزهر، أحمد الطيب، في بيان باللغتين العربية والفارسية "عدوان الكيان المحتل"، واعتبر صمت المجتمع الدولي عن هذا "الطغيان" شراكة في الجريمة، ومحاولة لجرّ المنطقة إلى حرب شاملة، لا رابح فيها إلا "تجّار الدماء والسلاح". وهي رسالة قُصد توجيهها إلى الشعب الإيراني، وتحمل أيضاً رمزية أن هناك ما يجمع الشعبين، غير ما يجمع بين كل المسلمين رغم الاختلافات بينهم، مذهبيّاً أو في اللغة.
وإجمالاً، جمعت توجهات المصريين بين إدانة العدوان والشعور بالرضا والترحيب بالضربات الإيرانية على إسرائيل، ولم تُخفِ تخوّفات من خسائر محتملة بانتصار إسرائيل وتحقيق هدفها بإسقاط نظام طهران بالقوة العسكرية، خصوصاً بعد الضربات الأولى التي بدا فيها النظام الإيراني المنهك اقتصاديّاً والمأزوم سياسيّاً مهتزّاً. ولم يكن هذا الشعور من تضامن واصطفاف مع إيران قاصراً على مصر، فقد بدا في تعبيرات شعوب عربية أخرى بدرجات متفاوتة، ومع اختلاف الصيغ والتعبيرات، لكنه في الساحة المصرية كان أشدّ وضوحاً، من الاحتفاء بالصواريخ الإيرانية إلى السخرية من رموز دولة الاحتلال وتصريحاتهم الدعائية، ما أزعج بالتأكيد دوائر إسرائيلية، عبّرت عن ذلك في صحافتها، وفي كلام إعلاميين فيها يستهدفون المنطقة العربية، وغير جهات تختص بمتابعة الرأي العام والصحافة العربية. وهذا غير مستغرب، خصوصاً أن إسرائيل تنتقد تغطيات وسائل إعلامية أميركية وغربية، طالما لم تتبنَّ موقفها وسرديّتها.

Related News
