
في خطوة أثارت استغراب الأوساط التعليمية والمجتمعية، قررت وزارة التربية والتعليم التابعة لمليشيا الحوثي الإرهابية بدء العام الدراسي مطلع يوليو الجاري، مخالفَة بذلك التوقيت المعتاد في أغلب الدول العربية، حيث يبدأ العام الدراسي عادة في شهري سبتمبر أو أكتوبر تزامنًا مع اعتدال الطقس.
لكن القرار الحوثي يأتي في فترة تشهد فيها معظم مناطق اليمن، لا سيما تهامة والمرتفعات الجبلية، ذروة موسم الأمطار والسيول وارتفاع درجات الحرارة، ما يضع العملية التعليمية أمام تحديات بيئية وإنسانية كبيرة تهدد استمرارها وسلامة المشاركين فيها.
أهداف تتجاوز التعليم
يرى خبراء أن القرار الحوثي لا يستند إلى دوافع تربوية بقدر ما يعكس توجهاً سياسياً واجتماعياً له أبعاد بعيدة المدى، ويقول الدكتور محمد الزبير، أستاذ التخطيط التربوي بوزارة التربية في الحكومة الشرعية، إن "اختيار توقيت يوليو لبداية الدراسة يعكس رغبة في تعطيل التعليم النظامي، لا سيما في المناطق الريفية والجبلية، حيث تكون الظروف المناخية أكثر قسوة".
ويضيف في حديثه لـ"الصحوة نت": "الهدف من هذا القرار يتجاوز العملية التعليمية، فالجماعة تسعى إلى إفراغ المدارس من محتواها التعليمي لصالح مراكزها الصيفية والدورات الثقافية، وإرهاق الأسر ودفعها إلى التخلّي عن تعليم أطفالها، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات التسرب وتزايد الأمية، وهي بيئة مثالية للسيطرة الفكرية والسياسية التي تنتهجها الجماعة".
ويشير الزبير إلى أن القرار يُعد أيضًا "رسالة سياسية لتعميق الانقسام عن الحكومة الشرعية، وتعزيز ثقافة الخضوع للسلطة، عبر فرض قرارات منافية للمنطق والواقع دون نقاش".
طلاب تحت المطر ولهيب الشمس
المناطق الأكثر تضررًا من القرار هي تهامة والمناطق الجبلية، حيث يتسبب هطول الأمطار بغلق الطرق وجعل التنقل إلى المدارس شبه مستحيل.
محمد العريقي، تربوي وناشط من تعز، يقول: "بينما قد يجد طلاب المدن وسائل للتغلب على الطقس، فإن أطفال القرى النائية يقطعون مسافات طويلة سيرًا على الأقدام في ظل أمطار غزيرة وطرق منهارة، مما يعرّضهم للمخاطر الصحية والجسدية". ويتابع: "القرار مجحف وغير مدروس، ويبدو أنه يستهدف هذه المناطق بشكل خاص بحرمانها من التعليم".
ووفقاً لتقارير تربوية، فإن نحو 65% من المدارس في المناطق الريفية هي مبانٍ غير مؤهلة، تعاني من تسرب المياه أو انهيارات جزئية في الأسقف خلال موسم الأمطار، كما أن الطرق المؤدية لها وعرة وتغمرها السيول.
أم محمد، من ريف صنعاء، تؤكد أن أبناءها "يقطعون ساعة يوميًا مشيًا في ظروف مناخية قاسية، وكثيرًا ما يعودون بحمى أو إصابات من الانزلاقات".
في المناطق الساحلية، لا تقل المعاناة، حيث تبلغ نسبة الرطوبة في الحديدة مثلًا أكثر من 70%، ما يحول الفصول إلى غرف خانقة.
علي (14 عامًا)، طالب من المدينة، يقول: "نحمل مناشف مبللة ومكعبات ثلج لنخفف من الحرارة داخل الصف، وبعض الطلاب يغمى عليهم من شدة الحر".
تعليم الفتيات.. الخاسر الأكبر
من أبرز تداعيات القرار، وفق خبراء، تعميق الفجوة في تعليم الفتيات، لا سيما في المناطق الريفية التي تسودها عادات اجتماعية متشددة.
منى الحضرمي، موجهة إرشاد تربوي، تقول: "في الأساس، نسبة التحاق الفتيات بالتعليم في بعض المناطق لا تتجاوز 30%، ومع قرار بدء الدراسة في موسم الأمطار، من المرجح أن تزداد حالات التسرب بشكل كبير".
وتحذر الحضرمي من أن هذا الوضع "يؤدي إلى تجهيل ممنهج للفتيات"، مضيفة: "رغم الحديث العالمي عن دعم تمكين المرأة، إلا أن ما يصل فعليًا من مساعدات التعليم لدعم تعليم الفتاة لا يتجاوز 3%، وهذه الفجوة تكرس واقعًا مريرًا يفضي إلى تزويج الفتيات بدل تعليمهن".
التعليم في قبضة "المشرفين"
يوازي القرار التربوي تغييرات إدارية عميقة نفذتها جماعة الحوثي، حيث تم إلغاء نظام الإدارة المدرسية التقليدي لصالح ما يُعرف بـ"المشرفين التربويين"، وهم عناصر من الجماعة يتم تعيينهم بناء على الولاء السياسي لا الكفاءة.
وتقول الأستاذة فاطمة، معلمة من صنعاء، إن "المدير لم يعد يملك صلاحيات، والمشرف هو من يقرر كل شيء، حتى جدول الحصص وتعيين المعلمين".
وتضيف: "يُطلب منا ترديد شعارات سياسية وحضور محاضرات غير تربوية داخل الصفوف، ومن يرفض يواجه الإقصاء".
ويؤكد د. داوود الأمين، خبير تربوي، أن "هذا النهج قوض البنية الإدارية للتعليم، فالمشرفون يفتقرون للخبرة، ما أدى إلى فوضى تنظيمية وتدهور غير مسبوق في جودة التعليم".
ويرى تربويون أن قرار الحوثيين ببدء العام الدراسي في توقيت غير مناسب ليس سوى حلقة جديدة ضمن سلسلة سياسات تهدف إلى تسييس التعليم وتطويعه لأهداف أيديولوجية، في ظل غياب واضح لدور المنظمات الدولية في حماية التعليم كحق إنساني، خاصة في مناطق الصراع.
وبين السيول والحر الشديد، يظل الطالب اليمني الحلقة الأضعف في معادلة معقدة، يدفع فيها ثمنًا باهظًا لتجاذبات السياسة وسوء الإدارة.
Related News



