المعبر السوري المأزوم
Arab
6 hours ago
share

في كتابه "الصراع على سورية" كتب الصحافي باتريك سيل أن ثمّة معطيات عديدة لا تسمح لسورية بأن تكون قوّة إقليمية فارقة، كحال مصر أو تركيا أو إيران، لكن موقعها الجغرافي المفتوح على عوالم جيوسياسية؛ تُشرف على الممرات الشمالية الشرقية الموصلة إلى مصر، وعلى الطريق البرّي ما بين العراق والبحر المتوسط، وعلى شمال شبه الجزيرة العربية، والحدود الشمالية للعالم العربي، وخط أمامي في مواجهة إسرائيل، أعطاها مكانة استثنائية في المنطقة، وجعلها ذات موقع محوري، ليس للجهود الدولية المبذولة في إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي فحسب، بل لجهود القوى الإقليمية المنقسمة فيما بينها. وتابع سيل القول، بكثير من الثقة التاريخية والجغرافية، إن من يريد التسيّد في الشرق الأوسط، عليه أن يضع أولاً خططاً حول سورية.
على غرار سيل، ذهب السوسيولوجي رايموند هينبوش إلى أن سورية، الصغيرة نسبياً بحجمها وتعدادها السكاني، مجهّزة بقاعدة محدودة من القدرة البشرية، وبعمق استراتيجي بسيط أو بقدرة ردع صغيرة إزاء الغزو، فقد كانت غير محميّة بحدودها الطبيعية، ومكشوفة من جميع الجوانب على الدول المجاورة التي كانت بين الفينة والأخرى تُشكّل تهديداً لها. ويرى هينبوش أنّ قلّة من البلدان كانت تمتاز بمسارب عديدة كهذه، مفتوحة على عوالم جيوسياسية متميزة جداً ومتداخلة، فموقعها كخطّ أمامي في مواجهة إسرائيل أعطاها مكانة رفيعة استثنائية في العالم العربي، وجعلها ذات موقع محوري للجهود الدولية المبذولة في إطار حل الصراع العربي الإسرائيلي. وكانت سورية تاريخياً شريكاً طبيعياً سعي، على نحو متكرّر، مع دول مثل مصر والعراق والسعودية، إلى إحلال التوازن بين مجموعة القوى المتنافسة في المنطقة. 
هذا الموقع الجغرافي المعقّد، خصوصاً بعد قيام الكيان الإسرائيلي في فلسطين، جعل من سورية محوراً رئيساً في أي حدث إقليمي، بل يمكن القول إن الانقلابات العسكرية التي بدأت عام 1949 وحتى 1970 كانت مرتبطة كلها بالمواقف تجاه إسرائيل والتحالفات الإقليمية ـ الدولية في المنطقة. ومنذ خمسينيات القرن الماضي، بدأت سورية تنظر إلى نفسها على أنّها قلعة العروبة وجغرافيا مناهضة لإسرائيل، الأمر الذي دفع قادتها إلى التنازل عن السلطة، ثمناً للوحدة مع مصر، لتحقيق هدفين رئيسيين: التخلّص نهائياً من ثقل الصراعات الإقليمية في سورية، وإنشاء جبهة موحّدة من الشمال والجنوب ضد إسرائيل.
مع حافظ الأسد، انتهى زمن عدم الاستقرار السياسي، لكن الثمن كان أن الأسد ربط ربطاً عضوياً بين المصلحتين الفلسطينية والسورية، مُخضعاً أو محاولاً إخضاع النضال الفلسطيني للأجندة السورية. وعلى الرغم من أن ذلك باعد بين سورية ومنظمّة التحرير الفلسطينية، وحال دون نشوء جبهة موحدة للنضال، نجح حافظ الأسد في جعل سورية دولةً محوريةً في أي حرب أو سلام مع إسرائيل، أو تفاهمات أو تحالفات إقليمية ـ إقليمية أو إقليمية ـ دولية في المنطقة.
كانت سورية تاريخيّاً معبراً لصراع القوى الإقليمية، بقدر ما كانت في المقابل معبراً لتفاهمات هذه القوى، فلا هي دولة قوية كمصر قادرة على الزعامة، ولا هي دولة ضعيفة يمكن بسهولة تحويلها إلى تابع. ومنذ عام 2013، بدأت سورية الدولة تخرج من معادلة موازين القوى الإقليمية، لكن موقعها الجغرافي سمح للأسد الابن بأن يحوّلها إلى دولة مشاكسة ومخرّبة في الجوار الإقليمي في حدود معينة.
ومع خروج إيران وروسيا من الساحة السورية بعيد سقوط نظام الأسد من جهة، وتدمير إسرائيل البنية العسكرية السورية من جهة أخرى، أُغلق المعبر السوري، وأُغلقت معه إمكانية التأثير في الجغرافيا السياسية للمنطقة على المديين القريب والمتوسط. هذا ما ظهر في الحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية أخيراً، فلأوّل مرّة منذ الاستقلال تكون سورية خارج معادلة الصراع تماماً، وبؤرة محايدة سلباً غير قادرة ليس على الفعل فحسب، بل أيضاً على القول.
لقد انتهى زمن التأثير السوري في الإقليم، مع التفوّق الإسرائيلي الاستراتيجي في عموم منطقةٍ عربيةٍ لا تُريد من حكام سورية الجدد سوى التركيز على إعادة بناء بلدهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والانضمام إلى فضاء عربي لا يعادي إسرائيل ولا يشكّل تهديداً لها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows