خالد عزب.. العمارة ورسائل السلطة في مصر
Arab
6 hours ago
share

يقرأ الأكاديمي والباحث المعماري المصري خالد عزب (1966)، كيف تغيّر موقع السلطة ومقرّها في مصر بتغير القوى الحاكمة، فلم تكن التحوّلات في أماكن الحكم من القلعة إلى القصور الرئاسية مجرد تحولات جغرافية أو عمرانية، بل كانت في جوهرها إشارات إلى تغيّرات عميقة في بنية السلطة وعلاقتها بالمجتمع. تشكل هذه التغيرات مادة كتابه "السلطة والعمارة في مصر" (دار الشروق، 2025).

يقارب المؤلّف العمارة بوصفها تجسيداً ملموساً لفلسفة الحكم، وبوصلة لتحولات الهوية السياسية والثقافية في مصر عبر العصور. ولا يكتفي بسردٍ تاريخي تقليدي عن القصور والمساجد والمآذن، بل ينفذ برؤية مؤرخٍ معماري إلى عمق المعاني التي تنطوي عليها البنى المعمارية، ويربطها بالسياق السياسي والاجتماعي الذي نشأت فيه. ويرصد أيضاً كيف كانت العمارة دائماً انعكاساً لطبيعة السلطة، وآلية تمثيلها لذاتها أمام المجتمع منذ الفتح الإسلامي وحتى العصر الحديث، فبينما عبّرت قلعة صلاح الدين، التي بُنيت في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، عن سلطة محصّنة ذات طابع عسكري، جاء قصر عابدين الذي شيّد عام 1863 ليشير إلى انتقال السلطة إلى مركز مدني أكثر انفتاحاً، وإن ظل حبيس الطابع الاحتفالي الفخم.

رمزية الحكم

ينتقل عزب بين العصور المختلفة، ويربط من خلالها بين المعمار من جهة والسلطة السياسية من جهة أخرى. ففي العصر المملوكي، مثلاً، ارتبطت العمارة الدينية ارتباطاً وثيقاً ببنية الحكم، فالمساجد كانت مؤسسات سياسية بقدر ما كانت دينية، والمدارس تُعزز حضور الدولة في النسيج الاجتماعي. وتبلغ هذه العلاقة ذروتها مع مسجد السلطان حسن، الذي انتهى العمل به في ستينيات القرن الرابع عشر الميلادي خلال حقبة المماليك البحرية، إذ يراه المؤلف تتويجاً لخصوصية المعمار المصري، وتعبيراً عن القوة المركزية للدولة آنذاك.

أما في العصر الحديث، فإن قصر الاتحادية الذي يعود بناؤه إلى عام 1910 قبل أن يُهجر لفترة طويلة ثم يتخذه الرئيس السادات قصراً رئاسياً، تعكس رموزه البصرية المستلهمة من العمارة المملوكية، استمرارية لصورة القصر السلطوي. أما واجهاته المزخرفة بالخط العربي فهي ذات دلالة رمزية تؤكد على النزعة القومية. وهكذا يضع المؤلف تصوره الذي يستند إلى أن العمارة لا تنفصل أبداً عن الرسائل السياسية التي ترغب السلطة في إيصالها إلى الشعب.

ينظر المؤلف إلى العمارة باعتبارها بوصلة لتحولات الهوية 
 

ويرى أن العمارة تُمارس دوراً خطابياً موازياً لخطاب السياسة. وهي لا تقتصر على كونها مأوى أو مساحة وظيفية، بل تعمل بوصفها لغة تعبّر عن النفوذ، والهيمنة، والشرعية. من هذا المنطلق، لا تُفهم السلطة إلا من خلال تمثيلها البصري عبر الرموز المختلفة، مثل البوابة المهيبة، والقبة العالية، والنقوش المختارة بعناية. كل تفصيلة في هذا المعمار تساهم في ترسيخ صورة ذهنية للسلطة في وعي الجماهير. العمارة هنا وسيلة لإنتاج الطاعة والانضباط، من خلال خلق الإحساس بالعظمة والرهبة. ولأن السلطة ليست واحدة، بل متعددة الأشكال والمصادر: دينية، وسياسية، واجتماعية، فإن تمثلاتها المعمارية تتنوع بدورها. وهذا ما يجعل من دراسة العمارة مدخلاً مهماً لفهم كيف يُنتج المجتمع سلطته، وكيف يُعيد تشكيل هويته في كل مرة عبر البناء والزخرفة والموقع.

قطيعة مع الماضي

لا يخفي المؤلف قلقه من قطيعة الحاضر مع الماضي، ويُصر على أن التواصل مع الإرث العمراني والتاريخي ليس ترفاً ثقافياً، بل ضرورة لفهم الحاضر ذاته. فالماضي، في نظره، ليس شيئاً جامداً نقرأه في الوثائق فحسب، بل هو نص متعدد الطبقات، يحمل في طياته العمارة، وتخطيط الشوارع، والحكايات، وسلوكيات الناس. ومن خلال استحضار هذا الماضي وفك شيفراته، نستطيع أن نفهم كيف تشكلت السلطة في مصر، وكيف تركت بصماتها على نسيج الحياة اليومية. 

وفي هذا السياق، يعتقد أن العودة إلى الماضي ليست رغبة في استعادته كما كان، بل محاولة لاكتشاف ما يحتويه من عناصر حيّة يمكن توظيفها في الحاضر. فالتاريخ، في نظره، ليس مجرد وقائع منتهية، بل مستودع غني بالتجارب والمعاني الكامنة، التي ما زالت قادرة على الإلهام والتشكيل. وفي تأمل المعمار، تتجلى لحظات نادرة من كشف الهوية، إذ تنطق الأحجار بما أغفلته السرديات الرسمية، وتظهر بين تفاصيل البناء ملامح مجتمعٍ كان، وتحوّلات سلطةٍ مرّت، لكنها تركت أثرها في الشكل والوظيفة والرمز.

كما يلفت عزب النظر إلى لحظة فارقة في تاريخ العمارة والسلطة في مصر، وهي مرحلة الخديوي إسماعيل. فقد بدأ في هذا العصر انتقال ملموس نحو مفاهيم جديدة للسلطة، بالتوازي مع انفتاح النخب على الثقافة الأوروبية. ظهرت المؤسسات الحديثة، مثل مجلس شورى النواب ونظارة الأشغال، ليس فقط كبُنى إدارية، بل كبنى معمارية تعبّر عن تحول في تصور الدولة لذاتها، وتكشف عن بداية مشاركة المصريين أو بعضهم في السلطة، بعدما ظلت حكراً على أسرة محمد علي والدوائر الأجنبية المحيطة بها.

الهوية الوطنية

أحد أهم الأفكار التي يطرحها الكتاب هو العلاقة بين العمارة والهوية الوطنية. فالطراز المعماري السائد في عصر معين ليس مجرد تفصيل جمالي، بل هو إفراز لروح تلك المرحلة. هكذا تطورت العمارة المملوكية لتُميز مصر عن الشام، رغم وحدة الحكم أحياناً، بينما ظهرت لاحقاً طرز أوروبية في عصر الاحتلال تعكس النفوذ الغربي، ولكنها لم تمح الروح الشرقية تماماً، التي ظلت تُطل من خلال الخط العربي أو الزخارف الإسلامية. ومن هنا فإن قراءة العمارة تصبح مرآة دقيقة لصراع الهويات داخل المجتمع المصري.

تؤشر العمارة إلى منسوب الديمقراطية في الحياة العامة

يمزج الكتاب بين التاريخ والعمارة بلغة أنيقة وتحليل شيق، ويقدم فيه المؤلف نموذجاً يُحتذى في كيفية قراءة الظواهر المادية بوصفها نصوصاً ثقافية وسياسية. يربط الكتاب بين البناء والرمز، وبين القصر والدولة، وبين المسجد والهوية، في سردية شاملة تسلط الضوء على الوجه الخفي للتاريخ، تاريخ السلطة كما كُتب على جدران القصور، وفي نقوش القباب، وعلى بلاط المدارس. إنه كتاب يُقرأ بعين المؤرخ وبذائقة المعماري، ويُخاطب القارئ العربي في لحظة فارقة بشأن العلاقة بين الشكل والمضمون، وبين من يملك السلطة، وكيف يختار أن يُرى.

على الرغم من تركيز الكتاب على مصر، إلا أن هناك إشارات ضمنية إلى السياقات الإقليمية والدولية التي أثرت في العمارة انطلاقاً من كونها أداة في يد السلطة. فالقصر الذي يُبنى في مصر لا ينفصل عن خيال معماري أوسع، تغذيه رموز القوة في إسطنبول، أو طرز الحداثة القادمة من باريس، أو حتى الطموح الإمبراطوري في لندن. وهكذا، فإن بعض التحولات المعمارية التي شهدتها مصر لا يمكن قراءتها إلا بوصفها تفاعلاً مع نماذج أخرى للحكم، أرادت النخبة المحلية محاكاتها أو التمايز عنها. فالعمارة هنا تبدو أشبه بمفاوضة بصرية بين المحلي والعالمي، بين الذات الوطنية والصورة التي تودّ الدولة أن تبدو عليها في أعين الآخرين.

كذلك يتطرق الكتاب، دون أن يصرّح بذلك مباشرة، إلى العمارة بوصفها مظهراً من مظاهر المشاركة السياسية. إذ كلما زادت عزلة مقر الحكم عن المدينة، وكلما بدا قصر الحاكم منفصلاً عن الشارع، دلّ ذلك على الرغبة في وجود مسافة بين السلطة والناس. أما حين يتداخل المعمار الرسمي مع النسيج الحضري، كما في حالات قليلة، فإننا نكون أمام تصور أكثر انفتاحاً لممارسة الحكم. وبهذا المعنى، تصبح العمارة أداة لقياس شفاف لمستوى التفاعل بين السلطة والمجتمع، بل ومؤشراً إلى منسوب الديمقراطية الرمزية في الحياة العامة.

 

* كاتب من مصر

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows