المؤتمر الوطني الشامل ركيزة أساسية لسورية المستقبل
Arab
8 hours ago
share

بعد عقود من استبداد حكم سورية، يجد السوريون اليوم فرصة تاريخية لإعادة بناء وطنهم على أسسٍ جديدة ومتينة. تهدف هذه الأسس إلى إنهاء القمع الممنهج، والتهميش والانقسام اللذَين مزّقا النسيج المجتمعي، وإلى فتح الأفق أمام مشروع وطني جامع يعيد للدولة هيبتها، وللمواطن كرامته وحقوقه، وللمجتمع وحدته وتماسكه. يتجاوز التحدّي الراهن مجرّد الانتقال السياسي، إنه يتمثّل في مهمّة جسيمة، إعادة تأسيس الدولة السورية برمّتها على قاعدة صلبة من المواطنة المتساوية، والعدالة الشاملة، واحترام التنوّع القومي والديني والثقافي والاجتماعي، الذي يمثّل جوهر الهُويَّة السورية، بما يليق بالتضحيات الكبيرة التي قدّمها السوريون، وبتطلّعاتهم المشروعة نحو دولة حرّة، عادلة وآمنة ومزدهرة.
لقد خلّفت سنوات الاستبداد والصراع إرثاً ثقيلاً من الانقسامات المجتمعية العميقة، وتدهوراً مؤسّسياً واسعاً، ما أدّى إلى شرخ كبير في الثقة بين مكوّنات النسيج الوطني. واليوم (بعد زوال نظام الأسد) بات ضرورة ملحّة عقدُ مؤتمر وطني شامل يمثّل محطّة مفصلية وتاريخية في مسار إعادة بناء الدولة. لقد طالب السوريون بهذا المؤتمر منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، لكنّه قوبل برفض النظام السابق، الذي اختار طريق القمع الدموي والمواجهة المسلّحة، بدلاً من الحوار البنّاء والتغيير السلمي.

لن يقتصر المؤتمر على النُّخب السياسية التقليدية، بل سيشمل مختلف أطياف المجتمع السوري بجميع مكوّناته، عاكساً تنوّعه السياسي والاجتماعي

أمّا اليوم، وقد طُويت صفحة ذلك النظام، باتت الفرصة مواتية للانتقال بحزم نحو مشروع وطني جامع، يكون فيه الحوار الصادق والشفّاف والتشاركية الحقيقية الضامنة لتمثيل جميع الأطراف الطريق الأوحد والمستقيم نحو مستقبل سورية المنشود. صحيحٌ أن محاولات سابقة للحوار الوطني جرت في سورية في الأشهر الماضية، لكنّها لم تحقّق الأهداف المرجوّة، إمّا بسبب محدودية التمثيل، أو الطابع الشكلي الذي طغى عليها. ومع ذلك، كانت هذه المحاولات (على محدوديتها) مؤشراً واضحاً على الأهمية القصوى للعودة إلى الشعب، والاحتكام إلى إرادته الحرّة، مرجعية أساسية لأي حلّ سياسي مستدام.
تُحسب للإدارة الانتقالية الحالية، برئاسة أحمد الشرع، مبادرتها إلى تبنّي هذا المسار الوطني، إذ باتت الحاجة ملحّة اليوم إلى عقد مؤتمر وطني جامع وشامل. هذا المؤتمر لن يقتصر على النُّخب السياسية التقليدية، بل سيشمل مختلف أطياف المجتمع السوري بجميع مكوّناته، عاكساً تنوّعه السياسي والاجتماعي والثقافي والقومي والديني. عقد مؤتمر وطني شامل في هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ سورية ضرورة وطنية قصوى، وليس مجرّد خيار سياسي. يُفترض أن يفضي هذا المؤتمر إلى توافق وطني واسع على أسس المرحلة الانتقالية، بما يعيد بناء الثقة المفقودة، ويعزّز التماسك المجتمعي، ويضع أسس نظام سياسي جديد يقوم على العدل والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
يُنتظر من هذا المؤتمر أن يكون سورياً خالصاً في قراره، يعتمد على تمثيل عادل وشامل لكلّ مكوّنات المجتمع السوري من دون استثناء، من عرب وكرد وسريان آشوريين وتركمان ودروز وعلويين وسنّة ومسيحيين وأيزيديين، وغيرهم من الأطياف الوطنية التي تتشكّل منها سورية. كما يجب أن يشمل تمثيلاً قوياً وفاعلاً للشباب والنساء ومنظّمات المجتمع المدني، بوصفهم شركاء أساسيين في بناء المستقبل، لا مجرّد حضور رمزي. من أولى الخطوات العملية المتوقّعة أن يُفضي المؤتمر إلى المساهمة في تشكيل مجلس تشريعي انتقالي، يضمّ كفاءات وطنية وشخصيات مستقلّة، تمثّل مختلف الاتجاهات السورية، تتولّى مهمّة وضع التشريعات الأساسية والضرورية للمرحلة الانتقالية، وتواكب التطوّرات خلال المرحلة التأسيسية للدولة الجديدة. إلى جانب ذلك، ضرورة وضع تصوّر لتشكيل جمعية تأسيسية وطنية تُناط بها مهمة صياغة دستور جديد للبلاد، يقوم على مبادئ المواطنة المتساوية، والمساواة الكاملة بين جميع السوريين، ويرّسخ الحرّيات العامّة الأساسية، ويعزّز استقلال القضاء ليصبح سلطة حقيقية، ويقرّ بحقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية، ويؤسّس نظاماً لا مركزياً ديمقراطياً يعكس واقع سورية دولة متعدّدة القوميات والأديان والثقافات.
وينبغي أن يكون هذا المؤتمر بوابة حقيقية وفاعلة لتحقيق مصالحة وطنية شاملة وعميقة، تقوم على أسس العدالة الانتقالية، وكشف الحقيقة كاملة حول ما جرى في السنوات الماضية، وجبر الضرر للمتضرّرين، والمساءلة القانونية للمتورّطين في الجرائم، بعيداً عن منطق الانتقام، أو الإفلات من العقاب، الذي يضرّ بالمجتمع. المصالحة ليست مجرّد إجراء شكلي، بل هي عملية مجتمعية عميقة ومعقّدة تتطلّب اعترافاً متبادلاً، وتواصلاً شفّافاً وصادقاً، وإرادة حقيقية لبناء مستقبل مشترك قائم على التسامح والتعاون. في هذا السياق، تبرز الحاجة الماسة إلى معالجة المظالم التاريخية المتراكمة التي تعرّضت لها بعض المكوّنات السورية على مدار عقود، مثل الشعب الكردي. وضرورة الاعتراف الصريح والعادل بحقوق هذه المكوّنات المشروعة، في إطار وحدة سورية وسيادتها، شرطاً أساساً وضرورياً لنجاح أي مشروع وطني جامع، ولمستقبل مستقرّ للبلاد.

عقد مؤتمر وطني شامل في هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخ سورية ضرورة وطنية قصوى، لا مجرّد خيار سياسي

تتطلّب إعادة بناء سورية أيضاً تحوّلاً عميقاً وجذرياً في الثقافة السياسية السائدة، وإعادة تعريف شامل لمفهوم الدولة نفسه، لتصبح دولة كلّ مواطنيها، من دون أي تمييز على أساس ديني أو قومي أو سياسي أو طائفي. الدولة المنشودة هي دولة القانون والمؤسّسات المنتخبة، التي تعبّر عن إرادة الشعب، والقضاء المستقلّ الذي يطبّق العدل على الجميع، والأجهزة الأمنية المهنية التي تعمل لحماية المواطنين لا قمعهم، والمجتمع المدني الفاعل الذي يساهم في بناء المجتمع، والإعلام الحرّ المسؤول الذي ينقل الحقيقة ويساهم في الرقابة. إن المؤتمر الوطني الشامل ليس هدفاً في ذاته، بل هو محطّة تأسيسية أولى في مسار طويل وشاق نحو تنظيم انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة، ذات مصداقية، تفرز سلطة شرعية حقيقية تعبّر عن الإرادة الشعبية الصادقة، وتؤسّس حكماً رشيداً قادراً على قيادة عجلة التنمية المستدامة، وتحقيق الاستقرار المنشود.
الدعوة الجادّة والمخلصة إلى هذا المؤتمر تُعدّ اليوم من أبرز الخيارات الوطنية والاستراتيجية التي يمكن أن تنقذ سورية من أزمتها الراهنة، وتفتح أمامها طريق التعافي وإعادة البناء الشامل. إنها دعوة صادقة وموجّهة لكلّ السوريين، وفي رأسهم النُّخب الفكرية والسياسية والمجتمعية، للانخراط بفعّالية في صياغة مشروع وطني جامع يعيد توحيد البلاد، ويؤسّس لسورية ديمقراطية، عادلة لا مركزية، تحتضن تنوّعها الغني بثقة تامّة، وتضمن كرامة جميع مواطنيها وحقوقهم غير المنقوصة. فالفرص التاريخية الكبرى لا تُمنح مرَّتَين في حياة الأمم. وإن لم يحسن السوريون اغتنام هذه اللحظة المفصلية، والحاسمة في تاريخهم، فإنهم سيغرقون في دائرة الصراع واليأس مرّة أخرى.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows