
يتحدّث بعض السوريين عن امتيازات حظيت بها مدن الساحل السوري. هناك إجماع على أنها حازت اهتماماً كبيراً في زمن النظام السابق. ولا يعني ذلك، بالضرورة، أنه بنى وعمّر ما يستحق الإعجاب في هذا الوقت، وفي زمنٍ لاحق. قد يكون أولى البنى التحتية عناية، وهذا ليس بالهيّن أو القليل، إذا تركّز على إنشاء شبكة طرق حديثة، ومرافق عامة عصرية، وحدائق، ومشافي، ودور سينما، ومسرح. لكن هناك ما يبعث على الشك، لأن النظام العائلي الذي حكم سورية 54 عاماً لم يكن معنياً بذلك، وإلا لوجدنا العاصمة لا تعاني من رداءة البنى التحتية وتهالكها، ومسارحها ودور السينما فيها مغلقة، وبعضها تحول دكاكين لبيع الملابس والأحذية.
وحدها حلب نجت جزئياً مما أصاب المحافظات الأخرى من خرابٍ عام، وهذا لا يعني أن المسارح ودور السينما والمكتبات بقيت على حالها، ولا تزال تعمل كما في السابق. لقد نال الكثير منها نصيبه من النكبة التي ضربت البلد، وأغلق عديدٌ منها أبوابه، والبعض الآخر لم يعد يعمل بسبب عدم توافر التيار الكهربائي والمال، الذي يشكل المحرك الأساسي، وخاصة في الأحياء التي تقع عن حدود التماسّ بين المنطقة الغربية التي كانت تحت سيطرة النظام، والشرقية التي كان فيها الجيش الحر والفصائل الأخرى المسلحة.
تعرّضت المناطق التي تمركزت فيها الأطراف المعارضة للنظام للتدمير بالطيران الحربي، والقصف بالمدفعية والبراميل المتفجرة من الجو، وخسرت المدينة ثروة عمرانية هائلة، يستحيل تعويضها أو ترميمها لترجع إلى ما كانت عليه، حيث يعود تاريخ بعض الأحياء إلى عدة قرون. ولم يفرق النظام بين بيت أو مكتب أو سوق أثري. وعلى هذا، تدمّرت الأسواق قرب باب انطاكيا القريب من قلعة حلب التاريخية، ويبلغ تعدادها 37 سوقا تضم أكثر من 15 ألف دكان تقوم على امتداد 1200 متر. وقد كانت تعد أكبر سوق في العالم، يتجاوز سوق الحميدية وبازارات إسطنبول الشهيرة، في تنوع المعروضات وعراقة العمارة. ولكل منها تخصّص مختلف، وتشمل المنتجات الحرفية، كالأقمشة الحريرية منها والمطّرزة والعباءات والسجاد اليدوي والزجاجيات على اختلاف أنواعها والصابون الطبيعي والمعطر والقطع المعدنية الذهبية والفضية والنحاسية والجواهر والعطور، وغيرها.
يستدعي حال مدينة حلب التوقف أمام نقطتين مهمتين: تتعلق الأولى بالعمران القديم. وتمتاز المدينة بأنها تنافس في ذلك أعرق المدن الكونية، فبعض معمارها من قلاع ومساجد وكنائس يعود إلى مئات السنين، كما هو الحال في القلعة الشهيرة التي يرجع بناؤها إلى الفترة الأيوبية، ولكن ما هو مسكون اليوم وفي حالة جيدة يعود إلى القرن التاسع عشر، في نهايات عهد الدولة العثمانية، وما أبقاه في وضع جيد أنه مبنيٌّ من الحجارة التي يتميز بها البناء الحلبي القديم والجديد، وقد جرى تجديده من الداخل على مستوى التمديدات الصحية، وتوزيع الغرف والصالونات، ليتماشى مع تطورات العصر الراهن. ويعود القسم الثاني المسكون إلى العمارة التي قامت في عهد الانتداب الفرنسي، ولكن وفق نمط معماري أكثر حداثة من الطراز العثماني، الذي أخذ بدوره من نمط العمارة الأوروبية، التي باتت أقرب الى متطلبات تشكيلة العائلة في ثلاثينيات القرن العشرين. وبذلك تبدّلت واجهات المباني، ودخلت عليها الشرفات التي باتت مخصّصة للسهر وشرب القهوة في الصباح، وارتفعت السقوف، واتسعت النوافذ للضوء، ودخلت الحدائق بقوة على التخطيط الحضري، وأجريت تعديلات إدارية، تخصّ المواصلات والمشافي والمدارس ودور العبادة. ويحتاج التفريق بين النمطين العثماني والأوروبي إلى تخصّص في تاريخ العمارة، وتدقيق في بعض العلامات والرموز الخاصة بكل منهما، وهو سهل في بعض الأحياء التي يغلب فيها عدد المساجد على الكنائس، وبالعكس.
تتعلق النقطة الثانية بالنمط الحديث في حقبة ما بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946، حيث واصلت الفئات المقتدرة مالياً البناء على الطراز المعماري الأوروبي، وتدريجياً دخلت الحداثة، وبدأ يظهر نمط من البذخ، من دون إحداث أي انقطاع بين الجديد والقديم، بل استمرارية، مثلما هو الأمر في باريس التي تغيّر فيها طراز عمارة الستينيات عن التي عرفها بنهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين.
عكس النمط الهندسي الجديد جانبا من الرفاهية والغنى، الذي تعرف به نخب وفئات من حلب، وتجلى فيه الطابع العام للشخصية الحلبية المعروفة بالتمسّك بالأصالة والانفتاح على المعاصرة، وهذا ما يظهر جلياً في المطبخ والغناء والموسيقى وزينة النساء ولباسهن التقليدي وجمالهن، وفي العادات والتقاليد.
حلب مدينة ذات مفاتن استثنائية بارزة تعكسها تقاطيع العمارة. تجعل الزائر يقف أمامها بحب وتقدير شديديْن. جمال يملأ العين ويذكي الشوق الوجداني والفضول المعرفي. هي مدينة على هيئة متحف كبير مفتوح، حيثما تحرك الكائن وجد نفسه مشدوها ومفتونا بالمكان، على غرار ما تولّده المدن الإمبراطورية، ذات الشخصية التي تكوّنت عبر العصور في زواج مدروس بين الأصالة والحداثة، كما هو الحال في لندن وباريس وإسطنبول. سحر حلب العمراني غير منقطع الصلة عن غناها الروحي.

Related News

