
انتهت الحرب بين إسرائيل وإيران، على الأقل مؤقتاً، وحانت لحظة تقييم النتائج واستقراء التداعيات، فالجميع يدّعون الانتصار. اعتبر ترامب أنه نجح في ضرب المشروع النووي الإيراني، رغم سياسته العدوانية، و"نصح" الإيرانيين بتغيير أولوياتهم والمراهنة على التجارة لإنعاش اقتصادهم، فيما أعلن نتنياهو "يوم النصر" بعد إقدامه على مهاجمة طهران وتصفية جزء من قيادتها العسكرية والعلمية، وتوريط أميركا في القضاء على الحلم الإيراني في امتلاك القنبلة النووية.
من الصعب الآن الجزم بأن إحدى هذه الروايات يمكن تصديقها، فالخداع جزء من الحرب. لكن المؤكّد أن الإسرائيليين عاشوا أياماً غير مسبوقة منذ تأسيس كيانهم. وما تعرّضت له مواقعهم الحساسة وأحياؤهم ومنازلهم من قصف وتدمير سيبقى منقوشاً في ذاكرتهم الجماعية. وفرار آلافٍ منهم برّاً وبحراً دليلٌ على أن "أرض الميعاد" ليست آمنة كما كانوا يعتقدون، فالهجرة العكسية لنخبهم المتميّزة لم تبدأ اليوم، حيث تحدث الخبير الروسي في الشؤون الإسرائيلية، أرتيوم كربيتشونك، عن مئات آلاف غادروا إسرائيل قبل 7 أكتوبر (2023)، وبلغت موجة الرحيل المضادّة ذروتها مع قدوم الصواريخ الإيرانية. وقد عبّرت صحيفة هآرتس عن هذا الانقلاب في صورة كاريكاتورية، تمثلت بمضيفة في طائرة تابعة للخطوط الجوية (عال) المتجهة خارج البلاد، وهي تسأل إن كان في الطائرة طبيب لمواجهة حالة طارئة، فإذا بجميع الركاب يرفعون أيديهم!
لم يكن الهجوم على إيران نزهةً كما اعتقدت الطغمة الحاكمة في إسرائيل، رغم خسائر ثقيلة منيت بها طهران. ومن يحاولون التقليل من هذا الأمر، لا يقدّرون أهمية العاملَين، المادّي والنفسي، في معركة مفصلية لم يسبق أن وقعت في منطقة الشرق الأوسط منذ سقوط الخلافة العثمانية. يجب عدم استصغار الذات، عندما تتحقّق مكاسب نوعية في معركة تاريخية. وما استنجاد إسرائيل بأميركا في هذه الحرب سوى دليل على عجزها عن ضرب النووي الإيراني بمفردها، واحتياجها شريكاً من الحجم الثقيل. ويعكس ما قاله السفير الإسرائيلي السابق في باريس، إيلي برنافي، الأزمة العميقة وخيبة الأمل التي تمر بها النخبة العلمانية الإسرائيلية، التي بعد الذي فعلته من أجل تحويل الصهيونية إلى مشروع دولة "حديثة"، فإذا بهذه الدولة تسقط في أيدي من وصفهم بأنها "عصابة جمعت بين الأصولية والفاشية".
يحاول نتنياهو أن يستثمر وقف القتال مع طهران الذي يرى فيه "انتصاراً تاريخياً"، من أجل تجميع الرأي العام حوله، ومواصلة بقية مسيرته الإجرامية. فغزّة تبقى الهدف عنده، ولا يزال يظهر رغبته الشديدة قي كسر شوكة المقاومة طمعاً في استسلام حركة حماس، أو على الأقل إخضاعها لشروطٍ تكسر شوكتها. ورغم أن غزّة أظهرت الكيان على حقيقته غاصباً، وتوسّعياً، ولا إنسانياً، وعنصرياً، وهو ما ألّب عليه الرأي العام الدولي، إلا أن نتنياهو يعمل حالياً على تشديد الخناق على أهل غزّة، مختفياً وراء "انتصاره" المشكوك فيه على إيران، ساعياً من جديد لإعادة تحالفه مع الحكومات الغربية التي خانت شعوبها للمرّة الألف حتى تحافظ على ولائها للصهيونية.
رغم الزلزال السياسي والعسكري الذي ضرب المنطقة في الأسابيع الثلاثة الماضية، حافظ "النظام العربي" على سُباته العميق والمثير. لم تتغيّر عقارب ساعته، ولم يراجع حكّامه حساباتهم، ولم يعدّل الجميع ولاءاتهم، فاللاعبون الرئيسيون الذين ظهروا بوضوح كانوا من خارج المنظومة الغربية. دولتان كان لهما إيقاع خاص: باكستان التي رغم علاقاتها القوية بواشنطن أعلنت من دون تردّد انحيازها إلى إيران، وكان لهذا وقع جيد في النفوس، وتركيا أردوغان الذي رفض العنجهية الإسرائيلية، بشكل واضح وصريح، ووضع الجيش التركي في حالة استعداد.
لن تُنسى حرب الاثني عشر يوماً بسهولة. ستبقى راسخة في ذاكرة الجميع. والأكيد أن مشروع "إسرائيل الكبرى" لن يمرّ، وإن حدث فسيجد حواجز متتالية للتصدّي له.

Related News

