كإحدى العادات الهزلية، يوجّه بعض الاقتصاديين، أسرى نماذج الاقتصاد البحت، النصائح تلو الأخرى لحكومات العرب مُطالبين إياها بمراجعة الكتب المدرسية في الاقتصاد الكلي والنقدي وخلافه، كما لو كانت المشكلة أنها حقًا لا تعلم عنها شيئًا، في واحدة من أقصى حالات المدرسية الساذجة التي تجعلهم حفنة من "الطيبين حسني النيّة" الذين يظنّون السبب في ما يبدو من تطبيق انتقائي مُشوّه مجرد سوء تقدير أو ضعف إرادة، وليس انحيازات اجتماعية ومصالح غير نزيهة ببساطة.
والأدهى أنهم ينتشون حبورًا بما تطبّقه حكومات العرب على رقاب شعوبها، ويدعونها إلى الإسراع بالمزيد منه، فيما يصبرون طويلاً وكثيرًا على ما لا تطبّقه مما يمسّ نخبها، بشكل يجعلهم عمليًا، وفي التحليل الأخير، كمن "يُحجِّزون" (بالتعبير العامّي المصري عمن يتوسّط فض خناقة) في جهة واحدة لصالح الأرستقراطية المحظية والسلطة الاستبدادية على حساب الشعوب، في حالة تواطؤ لا تليق ولا تتسق حتى مع مبادئ الليبرالية الكلاسيكية ومعاييرها!
وجذر الخلل عند هؤلاء الليبراليين ـ في أغلبهم ـ تصوّرهم إمكانية نجاح التحوّل الاقتصادي والاجتماعي بمنطق النقاط، وليس كتحوّل مُتكامل مُتسق ذاتيًا. كذا اعتقادهم بحتمية الانتهاء إلى شكل "رأسمالي مثالي" يرسو عنده دومًا المسار النيوليبرالي، وليس احتمالية وجود أشكال عديدة قد لا تمتّ إلى الأهداف المُتوخّاة والشعارات المُعلنة بصلة، بما فيها أشكال لا تنجح كليًا (كمعدلات نمو وتوازنات عامة) ولا توزيعيًا (كأنماط تخصيص وتوزيع)، فلا تنال الدول والشعوب من ورائها سوى الأشواك، فيما تستأثر قِلة محظوظة بالورود والثمار، دون أي عائد عام على النمو والتطوّر الكليين للبلد، حتى بطريقة الرأسماليات الكلاسيكية!
يساعدنا في فهم هذه الحالة الشائكة أحد المداخل الحديثة نسبيًا في تحليل النماذج الاقتصادية الواقعية، لا المثالية المجرّدة، هو مدخل "تنوّعات الرأسمالية" Varieties of Capitalism، الذي لا يفترض شكلاً مثاليًا مُوحّدًا للرأسماليات، ويستبطن الدور التكويني المهم للمؤسسات والعلاقات غير الرسمية وتوازنات القوى السياسية والاجتماعية في صياغة الشكل الفعلي النهائي لعمل النظم الاقتصادية الفعلية، ما يذكّرنا بطرح الباحث عمرو عادلي عن "الرأسمالية المشقوقة" (التي تناولناه في مقال سابق) كشكل للرأسمالية المصرية، الذي يتقاطع كثيرًا مع طرح "اقتصاد السوق المُجزّأة" الذي يطرحه ستيفن هيرتوغ في تصنيف يفسّر أداء الاقتصادات العربية متوسطة ومنخفضة الدخل وإشكالاتها، في كتابه "مُستبعدون من التنمية: الداخليون والخارجيون في الرأسمالية العربية" Locked Out of Development Insiders and Outsiders in Arab Capitalism (دار نشر جامعة كامبريدج، 2022)، الذي نناقش أفكاره الرئيسية في هذا المقال.
رسملة انتقائية: اقتصاد السوق المُجزّأة
ينطلق هيرتوغ من رصد وتحليل عام لأبرز مظاهر الأداء الاقتصادي العربي وإشكالاته في مجموعة الدول العربية متوسطة ومنخفضة الدخل تحديدًا، مُقتصرًا على مصر والأردن وتونس والجزائر والمغرب، وسورية واليمن (قبل اضطراباتهما 2011 و2015)، مُسجّلاً انخفاض ديناميكيتها الاقتصادية، مُتمظهرًا، ضمن أشياء أخرى، في تحقيق المنطقة العربية عمومًا أعلى معدلات بطالة عالميًا، وأقل نمو بإنتاجية العمل، وأقل حصة سلع عالية التقنية في صادراتها السلعية القليلة أصلاً، كذا أقل معدلات دخول شركات بالقطاعات والأسواق.
ويتمحور طرح هيرتوغ حول تنويعه المُقترح لها بكونها اقتصادات سوق مُجزّأة، تتضافر مجموعة عوامل لتسمها بهذا التجزء، أولها وجود دولة شديدة التدخّل في الاقتصاد، مع محدوديتها ماليًا وتخلّفها مؤسسيًا. فالواقع أن الاقتصاد العربي لا يزال دولتيًا Statist بالأساس، رغم محاولات اللبرلة منذ السبعينيات، وثانيها انحياز الدولة بشكل خلق انقسامًا حادًا ما بين الداخليين/المحظيين والخارجيين/المُستبعَدين، وثالثها غلبة توازن انخفاض مهارات وركود إنتاجية. وهو التجزؤ الذي يتضافر تقنيًا مع اعتماد هذه الدول على نموذج نمو كينزي قائم على الدولة، يعمل بهياكل إنتاجية وعوائد منخفضين، بشكل كانت نتيجته أن دفعت الحاجة لكلٍ من تحفيز الاقتصادات ودعم مزايا المحظيين عبر الاستهلاك العام، إلى مراكمة ديون عامة مرتفعة وإمكانات استثمار عامة منخفضة.
وبسبب هذه الحالة من التشوّه النيوليبرالي الدولتي، يرفض هيرتوغ تفسير الربيع العربي والعجز التنموي بالنيوليبرالية بحدّ ذاتها، وهو قول نوافقه في أقلّه ونخالفه في أكثره. ففي ضوء توصيف كهذا لا يخلو من الصحة، لا يمكن حصر أسباب الاثنين في النيوليبرالية وحدها بالتأكيد، فيما لا يمكن في ضوء الجوهر النيوليبرالي للواقع الاقتصادي العربي تبرئتها منهما بدعوى تشوّه التطبيق. فالواقع الذي لا يغفل عنه المؤلف، أن اختلالات التطبيق النيوليبرالي العربي، بأبعادها الهيكلية وخلفياتها التاريخية، لا تغيّر حقيقة أن الأنظمة لا تتكوّن في الفراغ المجرد، ولا تعيش في النماذج المثالية الفيبرية، بل تأخذ شكلها النهائي الواقعي ضمن السياق الاجتماعي والتاريخي المعيّن الذي تتحقّق ضمنه وتوجد فيه. وهكذا، فما يصفه بأنه تشوّه دولتي هو على الأرجح نسختنا العربية "الممكنة تاريخيًا" من الرأسمالية، التي جمعت لسوء حظنا شرور التبعية للخارج والمحاسيبية بالداخل والريعية فيما بينهما؛ ما تم بتواطؤ بين النُّخب الكومبرادورية التابعة بأشباه الجمهوريات العربية والمراكز الإمبريالية والرأسمالية المالية العالمية بالغرب.
من جهة أخرى، يرفض هيرتوغ النقد الليبرالي التقليدي، فلا يرجع ضعف الأداء الاقتصادي العربي إلى تدخّل الدولة بحد ذاته، بل إلى عدم توازنه وانحيازه الحاد، مع محدودية الموارد القابلة للاستثمار والتوزيع، ومع التأثير الجوهري لذلك التدخّل الذي يشكّل هيكل الحوافز وطبيعة المخرجات. فالمشكلة أن الدولة العربية لا تعمل بشكل متوازن يعكس تماسك السياسات العامة والمصلحة الاجتماعية، بل بشكل تمييزي تكاد تكون معه جهاز دعم ودفاع عن امتيازات ومكاسب المحظيين بالأساس، بما يتضمّنه ذلك من تطبيق انتقائي للقوانين والتنظيمات، ووصول غير متوازن للموارد والفرص، وحماية صريحة وضمنية للاحتكارات، فضلاً عن تبنّيها أنماط تخصيص غير متوازنة، وأشكال واتجاهات استثمار عام وإنفاق حكومي مُنحازة لا تتوخّى شمولية الاستراتيجيات التنموية واحتوائية أنظمة الرفاهة.
ورغم تأكيد هيرتوغ وجود ثنائية المحظيين والمُستبعَدين في كل الاقتصادات تقريبًا، فإنه يشدّد على عدم وجودها بهذه الحدّة والعُمق خارج الاقتصادات العربية، سواء من جهة التمييز الهائل بين الفريقين، أو من جهة حجم مزايا الداخليين والرعاية التي يحظون بها من الدولة، أو من جهة مدى استقرار مكوّنات الثنائية إلى حدّ توارثها عبر الأجيال، باستثناء الشرائح الأضعف من الداخليين، التي يجري تقليصها واستبعادها تدريجيًا مع تضييق دوائر المحظيين تحت ضغط الركود الاقتصادي والأزمة المالية المُتزايدة في تلك الدول.
ويعمل هذا الانقسام على الأصعدة كافة في الاقتصادات العربية، فهو قائم على مستوى المؤسسات والشركات، وعلى مستوى سوق العمل وأنظمة الرفاهة الاجتماعية. فعلى مستوى الشركات، نجدها منقسمة ما بين عدد قليل من الشركات الضخمة ذات العلاقات السياسية بالسلطة، أو ما يُعرف برأسمالية المحاسيب، وعدد هائل من الشركات الصغيرة والقزمية ينتمي أغلبه إلى ما يُعرف بالقطاع غير الرسمي، وبينهما نسبة صغيرة جدًا من الشركات متوسطة الحجم، التي تعكس حواجز الدخول المرتفعة للأسواق ومحدودية فرص نمو الشركات وإمكانية تحوّلها من شركات صغيرة إلى متوسطة فكبيرة، فيما يُوصف كثيرًا بظاهرة "الوسط المفقود".
وينتج من مُجمل هذا الوضع، تواضع متوسط كفاءة الشركات عموماً، فالشركات المحاسيبية الضخمة لا تواجه منافسة تجبرها على التحسّن، والصغيرة غير الرسمية محدودة الإمكانات وفرص الوصول إلى الأسواق والائتمان وغيره، لا عجب أن تكون الشركات متوسطة الحجم الأعلى كفاءةً في الاقتصاد، لكنها لا ترفع المتوسط العام المتواضع؛ بحكم قلتها النسبية.
أما على مستوى سوق العمل وأنظمة الرفاهة، فينقسم سوق العمل إلى قطاع عام ـ كبير نسبيًا ـ يحظى في المتوسط بأفضل متوسطات أجور وظروف عمل، وقطاع خاص منظم ـ صغيرـ يحظى بأوضاع أقل جودة، وقطاع خاص غير منظم هو الأضخم بين الثلاثة، يعمل بأقل متوسطات أجور وأسوأ ظروف عمل. فحسب إحصاءات مسح قوة العمل عام 2018، كان متوسط أجر الساعة في القطاع الخاص الرسمي أقل من نظيره في القطاع العام بما راوح ما بين 11 و17%، فيما كان متوسط أجر الساعة في القطاع الخاص غير الرسمي أقل من نظيره في القطاع العام بحوالى 33%، وذلك دون حساب المزايا النوعية والعينية للوظائف العامة من يوم عمل أقصر وإجازات أكثر وضمانات وظيفية أكبر وخلافه.
ويُلاحظ الارتفاع الشديد لنسبة التشغيل العام ضمن التشغيل بالقطاع الرسمي في المنطقة العربية مقارنةً ببقية العالم، ما يعكس ضعف نمو الأخير تماشيًا مع الركود الاقتصادي العام وارتفاع نسبة القطاع غير الرسمي، فضلاً عن مفاقمة اللبرلة لعدم استقرار التشغيل في القطاع الخاص الرسمي.
ورغم تدهور أوضاع الشرائح الدُنيا من العاملين في التوظيف العام والحكومي عبر السنوات، مع موجات التضخّم والأزمة المالية المتزايدة؛ فإنهم يظلون أفضل نسبيًا من نظرائهم بالقطاع غير الرسمي، ما يفسّر ضعف مرونة الانتقال بين قطاعات التشغيل المختلفة، فمن يعملون بالقطاع العام نادرًا ما يتنازلون عن مواقعهم أو يفقدونها، ومن يعملون بالقطاع الخاص غير الرسمي يقضون وقتًا طويلاً جدًا قبل الانتقال إلى القطاع الخاص الرسمي، وقد لا يجدون الفرصة للانتقال إليه أبدًا مع سيادة الواسطة والمحسوبية حتى في القطاع الخاص.
وبسبب هذا التركيب المحاسيبي الراكد لسوق العمل، وقع في ما يُعرف بـ"فخ انخفاض المهارات"، حيث يسود توازن مهارات وتكنولوجيا منخفض بفعل ضعف الضغط التنافسي على الشركات، ومن ثم عدم اهتمامها باستقطاب المهارات أو تقديم التدريب (جانب الطلب)، كذا بفعل غلبة المحسوبية على معايير الكفاءة في تحديد فرص الانتقال في سوق العمل وانخفاض العوائد على التعليم والتدريب، ومن ثم عدم اهتمام العاملين بتطوير مهاراتهم (جانب العرض).
كذلك يسهم التركيب المحاسيبي في غلبة التشغيل غير الرسمي. فقد قُدّر عام 2020 أنه لو اختفت المحاسيبية لصالح التنافسية في الاقتصاد المصري مثلاً، لارتفع التشغيل في القطاع الخاص الرسمي بنسبة 25%. وتزيد الدولة الموقف سوءًا بتركيزها الحصري على تحصيل الضرائب، لهذا لا تنجح محاولاتها لإدماج الاقتصاد غير المنظّم، لكونه إدماجًا لا يعني للمُستهدفين منه في المحصّلة الأخيرة سوى تحميلهم بالضرائب دون استفادة حقيقية بسوق أكثر تنافسية أو وصول أكثر عدالة إلى الموارد والفرص والائتمان. فامتدادًا لثنائية المحظيين والمُستبعدين، تريد الحكومة تحميلهم مزيدًا من المغارم مع استئثارها ومحظييها وحدهم بالمغانم، فيا لها من قسمة ضيزى!
ولم يؤد انقسام المحظيين والمُستبعدين إلى إضعاف دينامية الاقتصادات العربية وإفقار الغالبية العُظمى من شعوبها فقط، بل أسهم كذلك في تكريس حالة من الاحتجاز السياسي التي تؤخّر التحوّل الديمقراطي، حيث يرفض المحظيون الأقدر على تنظيم أنفسهم الإصلاح دفاعًا عن مزاياهم غير العادلة، ويطالب المُستبعدون بشمولهم بهذه المزايا، بدلاً من المطالبة بإصلاح سياسي واقتصادي شامل؛ لكونه لا يضمن مزايا قريبة ومؤكّدة. وهو ذات المسار الذي تفضّله النُّخب الحاكمة، لكونه يشقّ الصفوف ويؤجّل التناقضات؛ فيدعم استقرارها السياسي.
تناقض الطبقة والأمة عند العرب
ومشكلة هذا النموذج، إضافةً إلى ركوديته واستبداديته الكامنة، أنه لا يمكنه إلا أن يزداد انغلاقًا وحصرية على محظييه، وتهميشًا وعدائية تجاه مُستبعديه، حتى لتكاد تكون حالة "الرسملة الانتقائية" نوعًا من سوق "الفردة وفردة" بالتعبير المصري، حيث سوق حرّة على الشعب المُستبعَد (أسعار عالمية بدعوى عقلانية التكاليف)، دون أن يكون له شيء منها (كالتسعير الجبري على الفلاحين ومُصادرة الممتلكات الخاصة بدعاوى المصلحة العامة خارج منطق وسعر السوق (جزيرة الورّاق وأشباهها في مصر)، مقابل سوق حرّة لصالح النُّخب المحظية (حرية احتكار وتسعير مُطلقين بدعوى عدم تدخّل الدولة)، دون أن يكون عليها شيء منها (كالتسهيلات الحصرية غير السوقية لجميع أشكال السلطة والموارد والتمويل دون منافسة أو محاسبة)..، وكما هو واضح، تتكامل "الفردتان" كوجهَي عملة واحدة على تحقيق نتيجة واحدة، هي التداول المُعوَجّ للموارد والنقل القسري للثروة في اتجاه واحد، من الشعب المُستبعَد إلى النُّخب المحظية!
هذا الاستبعاد للأغلبية الشغّيلة من العرب، كطبقات فقيرة مُستبعَدة لصالح امتيازات أقلية محظية ضمن نمط التنمية القائم، بما يرتّبه من آثار لاتنموية على مُجمل الاقتصادات العربية، من ضعف ديناميكية وركود إنتاجية وتكلّس كيفي ونوعي، إلخ، يؤدي بنهاية المطاف إلى فشل التنمية بمجموعها، والاستبعاد الجيوتاريخي للعرب باعتبارهم أمة على مستوى النظام العالمي، ليصبح الاستبعاد التنموي لأغلب العرب بوصفهم طبقات شغّيلة داخليًا، والفشل التنموي أمةً ودولاً خارجيًا، وجهين لعملة واحدة (تخلّف النمط المحاسيبي القائم) ولتناقض واحد (تناقض مصالح النُّخبة المحظية وأغلب الأمة المُستبعَد).
Related News

