في الرواية العربية يتجلّى الجسد الأنثوي ساحة للصراع، وميداناً لحروب غير مرئية تُخاض فيها معارك السلطة، والهوية والشرف. لكن السؤال الجوهري الذي ظلّ يتردد من دون إجابة واضحة هو: من يملك جسد المرأة؟ هل تملكه هي باعتبارها إنساناً حرّاً؟ أم يملكه المجتمع بوصفه رمزاً للشرف الجمعي؟ أم أنّ الكتّاب حين يكتبونه يُعيدون إنتاج السيطرة عليه بلغة أنيقة؟
الرواية من التجسيد إلى التشييء
في أعمال نجيب محفوظ خصوصاً في "زقاق المدق" و"بداية ونهاية" نجد نموذجاً واضحاً لتأرجح الجسد الأنثوي بين الحضور والوصمة. حميدة بطلة "زقاق المدق" تتحول من فتاة حيّ بسيطة إلى راقصة تُرمى خارج دائرة الاحترام لا لأنها فقدت الأخلاق بل لأنها فقدت الملكية الاجتماعية، وتحولت إلى قضية أخلاقية عامة، لا لأنها اختارت مصيرها فقط بل لأنها خرجت عن وصاية الجماعة. إنّ محفوظ رغم نزعته الواقعية بقي أسير منظومة ترى في المرأة تجسيداً للشرف الذكوري، وفي خروجها عن الأعراف انهياراً لقيم الأسرة لا تعبيراً عن إرادة حرّة.
في "الخبز الحافي" قدّم محمد شكري كتابة جسدية صادمة لكنها صادقة حدّ الألم. جسد المرأة عنده ليس شيئاً مقدساً، بل أداة بقاء في عالم وحشي، نساؤه محطّمات، مستغلَّات، ومجردات من كلّ حماية. لكنه لم يكتبهن بوصفهن ضحايا تقليديات فقط، بل بوصفهن ناجيات على طريقته. في عالم شكري، الجسد لا يُمنح للمتعة ولا يُحاصر بالشرف، بل يُستعمل في حروب الحياة اليومية. ورغم العنف يفتح ذلك الباب أمام نقاش جذري حول ما إذا كان شكري يُفكك العنف أو يُعيد إنتاجه من خلال نظرة عبثية إلى المرأة. والسؤال الذي يظلّ معلّقاً في هذه الرواية: هل فتحَ شكري أفقاً لتحرير الجسد أم أعادَ إنتاج عبوديته بلغة العبث؟
حرمة انتزاع الصوت
في رواية "حرمة" كتبَ الطاهر بن جلون عن امرأة تتكلم، تحكي، تروي، وتكشف عن ذاتها. هنا كان الجسد مساحة مقاومة لا ملكية اجتماعية. إنه جسد ينزف، يتمرد، ويتمسك بصوته رغم كلّ شيء. هي محاولة نادرة في الأدب الذكوري أن يُسمع صوت المرأة من داخلها، لا من تصورات الآخرين عنها. لقد أظهر الطاهر بن جلون محاولة لكسر الهيمنة الذكورية عبر منح المرأة صوتاً سردياً متماسكاً، فالبطلة تسرد تجربتها بلسانها، من داخلها لا من عدسة الآخر. هي في الحقيقة تبقى استثناءً لا قاعدة.
الرواية ليست مجرد حكاية، هي سلطة. وكتابة الجسد خصوصاً الجسد الأنثوي ليست بريئة. هي إما تعبير عن حريته وإما تواطؤ مع السلطة عليه
الجسد كأرض خراب وبقاء
الرواية العربية كثيراً ما أعادت إنتاج السردية التقليدية: أنّ الجسد الأنثوي ليس ملكًا لصاحبته، بل هو مرآة لشرف العائلة وملك للمجتمع، وأن خروجه عن الطاعة يعني السقوط في العار. لكن الواقع الأدبي تغير. النساء اليوم يتكلمن، وتعيد الروايات النسوية رسم العلاقة بين الجسد والكرامة، بين الجمال والحرية. وكلّ ما نحتاج إليه اليوم في عالم الرواية أن نقرأ الجسد الأنثوي ليس بوصفه رمزاً بل بوصفه كائناً، وأن نتوقف عن إدانة المرأة إذا تحررت من القيود، ونعيد تعريف الشرف بوصفه كرامة إنسانية لا قيداً جسدياً. والأهم أن نشجع الروائيين الذكور على السؤال عن امتيازهم في رواية النساء، لا الاكتفاء بنقل معاناتهن من خارج.
في الحقيقة، من يملك الجسد؟ ... لا أحد.
ولا أحد يجب أن يملكه سوى صاحبته.
إنه وقت تفكيك الأوهام الثقافية لا إعادة إنتاجها بأقلام مثقفة، لأنّ المعركة ليست فقط ضد العنف، بل ضد اللغة التي تُزين هذا العنف وتُخفيه داخل الروايات. الرواية ليست مجرد حكاية، هي سلطة. وكتابة الجسد خصوصاً الجسد الأنثوي ليست بريئة. هي إما تعبير عن حريته وإما تواطؤ مع السلطة عليه.