الهامش ليس قدَراً: العرب وحضور يُصنع لا يُنتظر
Arab
3 hours ago
share

في خضم التحول العالمي المتسارع، تبدو الساحة العربية أقرب إلى المتفرج منها إلى الفاعل، وإلى أرضٍ مشاع تتنازعها المشاريع الإقليمية والدولية، منها إلى قوة تصوغ مصيرها. وبينما تُعاد صياغة النظام الدولي، وتتشكل تحالفات جديدة وتتراجع قوى تقليدية، يقف العرب، في المجمل، خارج لحظة التأسيس، محاصرين بردات فعل متأخرة، وتحالفات اضطرارية، وعجزٍ مزمن عن إنتاج رؤية تتجاوز منطق الدولة القُطرية المحدودة إلى مشروع استراتيجي جامع.

هذا التراجع لا يرتبط فقط بتوازنات القوة، بل يكشف عن غياب الخيال السياسي وتآكل الإرادة، في عالم لم يعد ينتظر من لا يبادر ولا يمتلك مشروعه الخاص. فخلال العقدين الأخيرين، ومع انحسار النفوذ الأميركي التقليدي في الشرق الأوسط، برزت فرص غير مسبوقة للعرب لإعادة تموضعهم، خاصة مع تصاعد أدوار قوى إقليمية كتركيا وإيران، ومناورة إسرائيل بسياسات التطبيع وفرض الأمر الواقع. لكن المنطقة العربية بدت وكأنها تتعامل مع هذه التحولات وكأنها شأن خارجي لا يخصها، تاركة المجال فارغاً لمن يملكه أو يدّعيه.

إن ما تواجهه المنطقة لا يخرج كثيراً عن نماذج تاريخية سبق أن رُصدت في الأدبيات السياسية والفكرية، حيث يبرز دور "الفراغ السردي" عاملاً حاسماً في انكشاف المجتمعات أمام التأثير الخارجي. لقد بيّن أنطونيو غرامشي، في حديثه عن التحولات الكبرى، أن "الأزمة تظهر عندما يموت القديم ولا يستطيع الجديد أن يولد"، وتلك بالضبط هي اللحظة العربية الراهنة: لا مشروع قديماً يصلح للبقاء، ولا سردية جديدة وُلدت لتقود. في هذا الفراغ، تنشأ الهويات القلقة، وتُستدعى النزاعات الطائفية بدائلَ مؤقتة، ويُستورد المعنى من الخارج لملء فراغ الداخل.

انقسمت المواقف العربية حول الملفات المركزية، من فلسطين إلى سورية واليمن، وتوزعت الولاءات بين محاور متضادة، لا على أساس مصالح واضحة، بل انطلاقًا من منطق الاحتماء والاصطفاف، بل إن بعض الدول باتت تمارس ما يمكن تسميته بـ"الاستباق الوقائي"، فتلهث خلف اتفاقيات أمنية واقتصادية مشروطة، ظناً منها أن الحماية تُشترى، متناسية أن الحصانة الحقيقية تُبنى من الداخل: من شرعية سياسية راسخة، واقتصاد متنوع، وتماسك اجتماعي متين.

لقد بيّن أنطونيو غرامشي أن الأزمة تظهر عندما يموت القديم ولا يستطيع الجديد أن يولد، وتلك بالضبط هي اللحظة العربية الراهنة

حتى الدول التي راكمت قدراً مهماً من القوة المالية أو الحضور الإعلامي، لم توظف هذه الموارد لبناء نفوذ سياسي مستقل، بل اكتفت باستخدامها لاحتواء التهديدات، أو للظهور في دور الوسيط لا الفاعل. وهكذا، ظلت السردية العربية إما دفاعية، وإما غائبة، وإما مكتفية بتعليق باهت على ما يصنعه الآخرون.

ومع ذلك، يفتح هذا المخاض الدولي للعرب نافذة تاريخية لا ينبغي تفويتها. فعندما تتزعزع ركائز النظام القديم، وتفقد القوى الكبرى قدرتها على الهيمنة الأحادية، تبرز فرص للقوى المتوسطة والصغرى لتثبيت موقعها، بشرط امتلاك الرؤية والجرأة. والعرب لا يفتقرون إلى المؤهلات الموضوعية: موقعهم الجغرافي يربط ثلاث قارات، وتمر عبر ممراتهم البحرية نصف التجارة العالمية، ويملكون ثروات طبيعية هائلة، وعمقاً ثقافياً وتاريخياً لا يستهان به.

لكن هذه المؤهلات لا تتحول تلقائياً إلى تأثير. لا بد من مشروع، لا بد من اعتراف بأن ما كان لا يصلح لما هو آت. فالمسألة ليست في وفرة الجغرافيا أو الثروات، بل في امتلاك الرؤية وبناء إرادة سياسية قادرة على اقتناص التحولات لا تفويتها.

لم يكن صعود بعض القوى الإقليمية في العقدين الأخيرين نتاجًا لفائض القوة وحده، بل لامتلاكها رؤية استراتيجية لما بعد التحولات. فقد أدركت تركيا مبكرًا تآكل النظام الدولي القديم، فتحركت خارج منطق رد الفعل، واشتغلت على تموضع جديد يجمع بين الاقتصاد والنفوذ العسكري والدبلوماسية الرمزية، فباتت حاضرة في خرائط الأزمات وفي حسابات القوى الكبرى. أما الصين، فاستثمرت تراجع الهيمنة الأميركية لا بالصدام، بل بتوسيع مجالها الحيوي، مستفيدة من شبكات الاقتصاد والبنية التحتية والتحالفات الهادئة. حتى إسرائيل، برغم تناقضاتها الداخلية، استطاعت أن تفرض سرديتها وتُعيد رسم حدود علاقتها بالمنطقة عبر سياسات التطبيع وفرض الوقائع، ما يجعل المشهد أكثر إلحاحاً على العرب: كل فراغ يُملأ، وكل فرصة لا تُغتنم تُصادر.

إن بناء سردية عربية معاصرة لا يبدأ من العداء للآخر، بل من الفهم العميق للذات. سردية تتجاوز الصراعات الطائفية والهويات الجزئية، وتؤسس لخطاب عقلاني جامع، يوازن بين السيادة الوطنية والانخراط الذكي في النظام العالمي.

ليست التحولات الكبرى مجرد تغير مواقع أو تراجع قوى، بل هي لحظات تعيد فيها الأمم تعريف ذواتها، وحدودها، ومشروعها الحضاري. وفي كل لحظة تشكّل، يكون السؤال الحقيقي: من يملك حق الحضور ومن يُروى عنه؟ فالذين لا يكتبون روايتهم سيجدون أنفسهم في روايات الآخرين، غالباً بوصفهم أمثلة على الفشل أو بوصفهم حواشي لا متوناً. والتاريخ، كما يعلّمنا دوماً، لا يُعيد نفسه إلا على من لم يفهمه في المرة الأولى.

وما لم يتحول الفهم إلى فعل، والرؤية إلى خطوات، فإن الموقع العربي سيظل عالقاً بين الفراغ الذي يملؤه الآخرون، والانتظار الذي لا يجلب سوى التآكل. فالحياد اليوم ليس حماية، بل غياب، والصمت ليس حكمة، بل فقدان للمبادرة، والمخاض ليس ظرفاً نراقبه، بل لحظة نخوضها أو نخسرها. فإما أن يكون العرب جزءاً من صياغة النظام العالمي الجديد، وإما أن يكونوا ساحة يُصاغ عليها، ومن دونهم.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows