
فوجئ المراقبون بإعلان البيت الأبيض، أمس الخميس، عن تعليق قراره بشأن الحرب الإسرائيلية الإيرانية لمدة أسبوعين، رغم سوابقه في التأجيل. وحمل القرار الخيبة للجهات المستعجلة على ضرب منشأة "فوردو"الإيرانية، في حين رحبت الجهات التي دعت إلى عدم الانتقال للخيار العسكري قبل استنفاد كل فرص الحل الدبلوماسي. وكان من المتوقع أن يحسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب موقفه بالتدخل أو على الأقل أن يوجّه انذاراً نهائياً بعد اجتماعي مجلس الأمن القومي، يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، وإطلاعه على آخر ما حمله تقرير الاستخبارات أمس الخميس.
وأوحت تصريحات ترامب النارية، التي أعقبت مغادرته قمة مجموعة السبع في كندا مساء الاثنين، بأنه على عتبة مثل هذا الموقف، وبدت كأنها تهيئة لاجواء الضربة. لكن تبيّن أنه تسرّع، ما اقتضى الفرملة ومراجعة الحسابات، خاصة أنه ليس لديه أصلاً قرار جاهز. فقد كانت تداعبه الفكرة، التي يتردد أن رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سوّقها له عبر مزيج من الضغوط السياسية والإغراءات العسكرية. ومع اقتراب ساعة الحقيقة وجد ترامب نفسه، على ما يبدو، في مأزق. فلا هو حظي بالحل الدبلوماسي المفضل لديه ولا هو راغب في الإقدام على الخيار العسكري المطروح عليه. فكان المخرج بأخذ فسحة اضافية من الوقت قبل اتخاذ القرار.
ولعل هناك عوامل أخرى أهم، محلية ودبلوماسية وأمنية، ساهمت في ترحيل البت بقراره، ليس أقلها التباينات داخل الإدارة حول الخيار العسكري، التي ربما فاقمها وجود "فقر بالخبرة في الشؤون الخارجية" بمجلس الأمن القومي، وخاصة أنه يعمل بدون مستشار للرئيس في شؤون الأمن القومي الذي يلعب وزير الخارجية ماركو روبيو دوره بعد شغور المنصب بإزاحة مايك والتز عنه في مايو/أيار الماضي إثر فضيحة "مجموعة سيغنال". وزاد الإرباك أن القرار العسكري قد تترتب عليه تداعيات سلبية محلية وأمنية.
كما تضاف لما سبق نتائج استطلاعات الرأي المتلاحقة التي عكست عدم وجود تأييد وازن للخيار العسكري، وآخرها كان استطلاع واشنطن بوست، الخميس، والذي جاء بنتيجة 45% ضد التدخل مقابل 25% مع التدخل، وأربكت أجواء الرأي العام هذه مداولات الإدارة. ويضاف إلى ذلك الانقسام الحاد في صفوف تيار "أميركا أولاً" الذي يشكل العمود الفقري لرصيد الرئيس، فالحسابات المحلية تردد أنها لعبت دورها في قرار الرئيس، ولو أنه قادر على تجاوزها إذا اراد. وبالإضافة لذلك، لعبت الخشية من التداعيات الأمنية لضربة من هذا النوع دوراً في التأجيل، ولطالما جرى التذكير باليوم التالي ومخاطر التورط المكلف والمديد لقرارات من هذا النوع، كما حصل في الحالتين العراقية والليبية وغيرهما. كما جرى التوقف والتحذير من عواقب الإقدام على خطوة من هذا النوع بدون "خطة جاهزة للخروج منها"، وغياب هذه الخطة في الحالة الراهنة ربما يكون قد ساهم في تريث ترامب.
وإضافة لكل ذلك، فإن الخيار الدبلوماسي قد تتاح له فرصة أخيرة، وفق الإشارات التي صدرت عن أكثر من مرجع أميركي وإيراني لعقد لقاء محتمل في جنيف. ومثل هذا الاحتمال قد يكون من العوامل التي دفعت باتجاه الفرملة، التي حظيت بالترحيب لدى بعض نخب السياسة الخارجية. وقال الدبلوماسي المخضرم ريتشارد هاس "التمهّل وأخذ المزيد من الوقت" لمنح فرصة أخيرة للدبلوماسية "شيء جيد"، وتردد مثل هذا التشجيع في الكونغرس، الذي سارعت بعض أوساطه من الديمقراطيين والجمهوريين للتضييق على القرار العسكري من خلال ربطه بموافقة مسبقة منه. كما أن من الأسباب المهمة للتمهل هي رغبة البيت الأبيض شراء المزيد من الوقت، بهذين الأسبوعين، علّ العمليات العسكرية تساعد في "تليين" الموقف الإيراني وتحمله بالتالي على العودة إلى الطاولة. أو ربما قد "تضعف" إمكانياته للرد على ضرب "فوردو"، وتحديداً قدرته على الرد في مياه الخليج العربي والمضايق المائية بالمنطقة ما قد يؤدي إلى أزمة نفطية.
ومع أن كل هذه المحاذير قد تبرر تروي ترامب في قرار مشاركة إسرائيل في الحرب، لكن ثمة من لا يستبعد أن يكون التأجيل مفخخاً بغرض الاحتفاظ بعنصرالمفاجأة، فالرئيس "وضع نفسه في صندوق مقفل" حين رفع السقف إلى "صفر تخصيب" وطالب إيران " بالاستسلام غير المشروط " بحيث سدّ الطريق على العودة عن الخيار العسكري. وفي المقابل، تميل بعض القراءات إلى ترجيح احتمال أن يكون إعلان ترامب المفاجئ مقدمة لتراجعه عن الخيار العسكري، بعد التحضير لصيغة حل دبلوماسي يعكس رغبته الأساسية، ففي النهاية ترامب بارع في تسويق التشدد والتراجع في آن معاً.
