عصر البكاء
Arab
4 hours ago
share

يختار ناجي نجيب عنواناً لمؤلفه هو "كتاب الأحزان"، والهدف من ذلك مناقشة قضية البكاء والدموع في الفن والأدب العربي في العصر العربي الحديث، استناداً إلى الشعبية الهائلة التي نالها كاتب مثل مصطفى لطفي المنفلوطي في بداية القرن العشرين. وللكتاب عنوان فرعي هو "فصول في التاريخ النفسي والوجداني والاجتماعي للفئات المتوسطة العربية".

السؤال الذي يتبادر بعد قراءة الكتاب هو: لماذا كان الحزن رفيقاً أو صاحباً لحياة تلك الفئات العربية في بدايات القرن العشرين، أو نهايات القرن التاسع عشر؟ وهل انتهى حزنها؟

اللافت أن كاتباً مثل المنفلوطي هو الذي استطاع أن يُعبّر عن أحزان تلك الفئات من خلال القصص والروايات، إذ إن المشترك بين الكاتب وجمهور القراء، بحسب ناجي نجيب، هو ضعف القدرة على مواجهة الواقع، بحيث يبدو الأدب، أو الرواية والقصة هنا، هو الشكل القادر على التعبير عن هذا الضعف، والتعويض عنه في الوقت نفسه.

لماذا كان الحزن رفيقاً لحياة تلك الفئات العربية في القرن العشرين؟

يتجسّد شعور الضعف عند الفئات الوسطى العربية في أنها، ضمن المجتمع المستعمَر (وقد أضحى العالم العربي كلّه مستعمَراً في بدايات القرن العشرين، أي زمن الكتابة المنفلوطية)، لا تملك أي تأثير في حياتها، ولا في التغيير في المجتمع، ولا في الظهور على مسرح الحياة والأحداث، أو التعبير عن الذات، وإشباع المشاعر الفردية المتفتّحة، وهي جميعها تطلعات لا سبيل إلى تحقيقها تحت ظروف التأخر والاستعمار. بل إن الاقتصاد الاستعماري المتحالف مع الإقطاع أغلق أمامها أبواب الصعود والتحرر. لهذا، بدأ العصر العربي الحديث باكياً.

ثمة نقد يوجَّه إلى المسرحيين وحدهم، أي إلى المسرح الميلودرامي، الذي أكثرَ من مشاهد الموت والحزن على الخشبة، غير أن استجابة الجمهور العربي لمسرح الدموع هي الظاهرة التي يجب أن يوجَّه إليها النقد، وأن تُدرَس في أي علم من علوم الاجتماع، على غرار ما فعل ناجي نجيب في كتابه. فالاستجابة الجماهيرية الواسعة لكاتبٍ ما لا تتعلق بالمستوى الإبداعي لمؤلفاته فقط - كي لا نظلم أحداً - بل بالمعاني أو التوجّهات التي يعمل على إشاعتها، أو بقدرة كتاباته على التعبير عن المشاعر الجمعية لقرّائه.

دون أن يعني هذا أنه يكتب جيداً، ولعل المنفلوطي يكون المثال الأكثر وضوحاً على معنى الجماهيرية التي قد يحصل عليها كاتب ما في عصر ما، بينما نراه يفقدها تماماً في العصر التالي، ويختفي من الحياة الأدبية، ويتحوّل إلى المتحف. فالأدب ليس استجابة، والرواية لا تتابع المشاعر بل تصنعها.

لا تنتهي حالة الحزن العربي. فإذا ما فقدت الفئات المتوسطة العربية الأمل، والقدرة على التغيير أو تبديل الموقع في بداية القرن الماضي، فإن معظم الفئات الاجتماعية العربية اليوم تعيش حالة من اليأس والاكتئاب، وخسارة المستقبل الذي لم يعد موجوداً، أو خسارة الحاضر الذي يتّسم بالعجز، واستيلاء المجموعات المسلحة - بالقنابل، أو بالرغبة في العودة إلى الماضي - على حياتنا. وفي غياب التعبير الأدبي والفني العربيين، يبدو المسلسل التركي، بحركة شخصياته الجامدة، وتوالي حلقاته المغلقة بلا أمل، والذي يتابعه الملايين من العرب عبر الفضائيات، الشكلَ المنفلوطي الجديد لترجمة حالة الانكفاء، أو الميلودراما المعاصرة للتعبير عن الحزن العربي المقيم.


* روائي من سورية

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows