
منذ بداية حربه على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يتعمّد الاحتلال الإسرائيلي حصر الفلسطينيين في بقع محدّدة. مواصي خانيونس اليوم من تلك المناطق التي تكتظّ بالنازحين، وتعاني كما سواها من ظروفة صعبة.
مع توجيه الاحتلال أوامر إخلاء لسكان مدينة خانيونس في جنوب قطاع غزة بمعظمهم، وقبلها نزوح أهالي مدينة رفح الجنوبية كذلك الملاصقة للحدود المصرية، راح النازحون الفلسطينيون يتكدّسون في المواصي غربي خانيونس ذات المناخ الصحراوي والتي تفتقر إلى شبكة خطوط مياه وبنية تحتية وعمرانية، وذلك منذ ما قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة المتواصلة على القطاع المحاصر منذ أكثر من 20 شهراً.
ووسط اكتظاظ مواصي خانيونس بالنازحين، ازداد الطلب على مياه الشرب التي تتوفّر بمعظمها من خلال شاحنات صهاريج توزيع المياه الصالحة للشرب على مخيمات الإيواء مرّتَين أو ثلاث مرّات أسبوعياً في كلّ مخيم أو منطقة فيها، الأمر الذي يزيد الضغط والتدافع ومظاهر الفوضى أمام الشاحنات لتعبئة خزّانات المياه الصغيرة. ويأتي ذلك وسط ارتفاع الحرارة وانتشار الحشرات وظهور أمراض جلدية وأخرى تتعلّق بالجهاز الهضمي. وقد دفعت قلّة المياه وعدم توفّر أماكن إيواء للفلسطينيين الذين تهجّرهم آلة الحرب الإسرائيلية، عشرات الآلاف إلى السكن على شاطئ البحر، حيث يشكون من معاناة يومية أخرى مع غمر مياه البحر خيامهم.
عند شاطئ البحر، كان أنور حمدان سليمان يحاول إقامة سواتر رملية لصدّ أمواج البحر التي تتقدّم نحو الخيام، هو الذي يعيش في خيمة مهترئة تمزّقت بفعل طول مدّة استهلاكها، فعمد إلى سقفها بشادر من النايلون يتحوّل مع ارتفاع درجات الحرارة إلى ما يشبه الفرن. ويتصبّب سليمان عرقاً وهو يعمل منذ ساعات الصباح، ويأخذ استراحة ما بين ساعة وأخرى قبل أنّ يكمل إقامة السواتر، علماً أنّه يدرك جيّداً أنّ أيّ موجة عالية سوف تهدم كلّ ما تعب لإنشائه. ويحكي سليمان عن وجعه لـ"العربي الجديد"، في حين تتسرّب المياه أسفل قدمَيه وتضرب خيمته قبل أن تعود إلى البحر، فيؤكد: "نعاني أشدّ المعاناة مع مياه البحر، إذ تغمر الخيمة وتبلّل الفرش والملابس. لذا نحاول إقامة سواتر رملية، لكنّ الأمر غير مجدٍ". يضيف أنّ "الأوضاع صعبة، ومع تهجير مدينة خانيونس إلى المواصي، لم تعد ثمّة أماكن بديلة للنزوح. بحثت كثيراً ولم أجد إلا شاطئ البحر".
منذ عشرة أشهر، يعيش سليمان على الشاطئ، لكنّ كلّ يوم يمرّ عليه "أسوأ من سابقه"، ويتحدّث عن معاناته لتوفير الطعام ومياه الشرب، وتعطّل تعليم أولاده، و"المعركة التي لا تنتهي مع مياه البحر"، وخيمته الممزّقة بفعل الرياح والعوامل الأخرى. بالنسبة إليه: "نحن نعيش كارثة ومأساة لم نخبرهما طوال حياتنا"، مشيراً إلى أنّ "بيتي المكوّن من أربع طبقات مدمّر. وحياتنا ومستقبلنا إلى المجهول". ويبيّن سليمان أنّه بحث كثيراً عن مكان إقامة بديل للتخلّص من معاناته مع مياه البحر، إلا أنّه لم يجد أيّ مكان بفعل نزوح سكان مدينة خانيونس بغالبيّتهم. وعن مشكلة توفير مياه الشرب، يقول إنّ "هذه مأساة أخرى يعيشها كلّ شخص في المواصي، فشاحنات صهاريج المياه لا تتوفّر إلا مرّتَين أسبوعياً، وسط تدافع كبير عليها".
في ناحية أخرى من مواصي خانيونس، كان عدي قشطة يبحث، على درّاجته الهوائية ومعه ثلاثة غالونات من المياه، عن نقطة لبيع المياه منذ الصباح. لكنّ خزّانات المياه كلها كانت فارغة على طريقه الممتدّ على نحو ثلاثة كيلومترات. ويخبر "العربي الجديد": "نزحنا من منطقة معن الواقعة شرقي خانيونس نحو المواصي قبل شهر"، شاكياً من أنّ "وضع مياه الشرب فيها صعب جداً. فلا شاحنات صهاريج منذ أربعة أيام بسبب أزمة الوقود في محطات تحلية المياه". ولا يُخفي قشطة أنّ عائلته تبقى لساعات من دون قطرة مياه واحدة، وفي إحدى المرّات عانت ليوم كامل من ذلك، فيما يشير إلى أنّ مياه الصهاريج في الغالب لا تكون صالحة للشرب، فهي غير مفلترة بحسب المعايير اللازمة، لذا فإنّها تسبّب أوجاعاً وأمراضاً في الجهاز الهضمي.
توفير المياه مهمة يومية شاقة في مواصي خانيونس
تتلاصق الخيام نتيجة عمليات النزوح المستجدّة، وعلى مدّ البصر تملأ الخيام رمال مواصي خانيونس الشاسعة فتغطّيها بكامل مساحتها. ويعاني النازحون الوافدون أخيراً من صعوبة بالغة في إيجاد مكان يتّسع ولو لخيمة واحدة، بعدما تحوّلت المواصي إلى ملاذ أخير لسكان مدينتَي رفح وخانيونس. كذلك يُسجَّل نزوح من أطراف المواصي إلى عمقها.
في الإطار نفسه، أُجبرت عائلة الحاجة أزهار نصر على النزوح إلى عمق مواصي خانيونس من منطقة أصداء القريبة من بلدة القرارة في محافظة خانيونس، إذ تتعرّض لعملية عسكرية تشنّها قوات الاحتلال. وتحت الشمس الحارقة، هربت نصر من داخل الخيمة لتحصل على بعض الهواء، علماً أنّ الممرّ الفاصل بينها وبين الخيام الأخرى لا يزيد عن متر واحد، الأمر الذي يزيد "الضيق" الذي تعيشه في نزوحها الجديد منذ أسبوعَين.
ويؤرّق الذباب الذي لا يفارق الخيمة، لا ليلاً ولا نهاراً، وكذلك البعوض نصر وعائلتها. وتخبر "العربي الجديد": "أنا مصابة بارتفاع ضغط الدم وبداء السكري، كذلك أعاني من غضروف وكسر في القدم، وهكذا تأتي حياة الخيام بكلّ ما فيها من صعوبة ومشقّة لتزيد أوجاعي". تعيش نصر اليوم في منطقة خيام مساحتها كيلومتر مربّع يضمّ نحو عشرة آلاف نسمة، ويعتمد النازحون فيه على بئرَي مياه تعودان لمزارعَين يشغّلانهما لمدّة ساعة أو ساعتَين يومياً حتى يستفيد الناس من المياه. وبسبب الاكتظاظ، يتزاحم النازحون أمام صنابير مياه البئر ويصطفون في طوابير طويلة وينقلون الدلاء لمئات الأمتار في مهمّة يومية شاقة.
محمد خالد زعرب هو مالك إحدى البئرَين، يفيد "العربي الجديد" بأنّ "منذ بداية الحرب، نشغّل البئر عصر كلّ يوم، والناس يعتمدون عليها، لكنّها غير كافية لتغطية الاحتياجات مع زيادة الضغط السكاني ووفود عشرات آلاف النازحين الجدد إلى المنطقة". وإذ يأسف لـ"عدم قدرتنا على تغطية الاحتياجات"، يشدّد على أنّ "ثمّة حاجة لإنشاء آبار أخرى".
اكتظاظ هائل
يؤدّي اكتظاظ مواصي خانيونس إلى ضغط اجتماعي كبير. على سبيل المثال، تؤوي الحاجة هنية أبو مشايخ عائلتَي ابنتَيها وأولادهما، وتعيش بالتالي مع 48 فرداً في ثلاث خيام. ولا يفصل باب خيمة أبو مشايخ عن باب خيمة جارتها إلا ممر ضيّق، وبالمحاذاة نُصبت مئات الخيام في منطقة رملية منخفضة. تحكي لـ"العربي الجديد" بألم عن واقع صعب تعيشه: "نزحت إلى هذه المنطقة قبل نحو عام ونصف عام. عددنا كبير، ما يزيد استهلاك مياه الشرب، ونحن نقترب من الصيف الذي يزيد فيه استهلاك مياه الشرب، في حين أنّ الشحّ كبير فيها. ونتوجّه إلى بئر تبعد عنا نحو 300 متر يومياً لتعبئة المياه من أجل الغسل، وهي عملية يومية مرهقة".
تضيف أبو مشايخ: "عندما تحضر شاحنات توزيع المياه، تتشكّل طوابير من مئات الأشخاص، وبالتالي قد نتمكّن فقط من تعبئة ثلاثة غالونات، لا تكفي لاستهلاك يومَين". وتتابع أنّ "ضغوط الحياة كبيرة، والضغوط النفسية والاجتماعية تزيد الشجارات"، لافتةً إلى أنّ "قطعة قماش فقط تفصلك عن جارك، والشجارات تُسمع على مدار الساعة". وتشكو أبو مشايخ كذلك من إصابة أحفادها الأطفال بأمراض جلدية، فتنتشر الحبوب على كامل جسد حفيدتها فرح البالغة من العمر ستّة أعوام منذ ستة أشهر على الرغم من حصولها على مراهم طبية. وتذكر أنّ "بيئة المواصي وحياة الخيام الخالية من بنية تحتية لتصريف مياه الصرف الصحي تمثّلات أرضيّة خصبة لتكاثر البعوض والذباب بالإضافة إلى حشرات غير معروفة تنتشر بين الرمال وتزيد من الأمراض".
عجز دوائي في عيادة مواصي خانيونس
نتيجة النزوح الكثيف إلى مواصي خانيونس أخيراً، يتزايد الضغط على العيادات والنقاط الطبية، التي تواجه من جهتها مشكلة كبيرة في ظلّ عجز دوائي، الأمر الذي يؤدّي إلى تفشّي الأمراض وانتقالها أكثر فأكثر. أمام إحدى عيادات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في المواصي، يخبر شقيق الطفل محمد زعرب، البالغ من العمر ثلاثة أعوام والذي يواصل الصراخ، أنّ الحبوب تنتشر على جسد الصغير، وهي "ظهرت بسبب قلّة النظافة وانتشار الحشرات". ويلفت لـ"العربي الجديد" إلى أنّ ذلك يعود إلى "عدم توفّر مواد تنظيف وعدم توفّر دواء".
كذلك تُسجَّل أمراض مرتبطة بسوء التغذية التي تصيب الأطفال وكبار السنّ والحوامل نتيجة تشديد الاحتلال الإسرائيلي حصاره على قطاع غزة من خلال إغلاق المعابر ومنع إدخال الإمدادات اللازم، من بينها تلك المنقذة للحياة. وتشير أم خالد، امرأة فلسطينية حامل قصدت العيادة لمتابعة حملها، إلى أنّ "أوضاع الحوامل صعبة جداً في المواصي"، إذ "لا تتوفّر مغذيات من قبيل البيض والحليب واللحوم. ومنذ بداية حملة التجويع، نحن نأكل العدس والأرزّ". تضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "اليوم، طلبت منّي الطبيبة إجراء تحليل خاص لمستوى السكر في الدم، وما زلت أبحث عن قطعة حلوى لأتناولها قبل التحليل من دون جدوى".
يقول أحد أطباء عيادة وكالة أونروا، الذي اشترط عدم ذكر هويته لأنّه غير مخوّل بالحديث إلى الإعلام، إنّ "الأمراض الجلدية تنتشر بكثرة بين النازحين بسبب الاكتظاظ"، مشيراً إلى أنّ "منها ما هو عدوى جلدية ومنها ما هو تحسّسي". يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "الأدوية المتوفّرة لا تغطي 5% من الاحتياجات. كذلك ثمّة زيادة في أمراض الجهاز الهضمي بسبب قلّة مياه الشرب النظيفة وسوء التغذية الذي وصل إلى مستويات خطرة، وهذا سبب إحضار الأطفال إلى العيادة لهذا السبب، فيما الفيتامينات المتوفّرة غير كافية". ويؤكد الطبيب أنّ "70% من الأدوية غير متوفّرة، بالإضافة إلى عدم توفّر ما يكفي من المضادات الحيوية".
