
"في المشمش" (فاكهة المشمش) عبارة يُطلقها مصريون لاستحالة حدوث الفعل أو التشكيك في وقوعه إلا في قرية العمار الصغيرة بمحافظة القليوبية، قلب دلتا النيل شمال العاصمة القاهرة، فالمستحيل يقع "في المشمش"، والأحلام والأفراح تتحقق فيه. يضرب المصريون المثل البسيط تماهياً مع العمر القصير لحصاد محصول المشمش الذي يبدأ في الأسبوع الثالث من مايو/ أيار وينتهي بعد شهر ونصف الشهر، من دون أن يدرك كثير من الناس فرصة شرائه أو التمتع بحلاوته، على غرار باقي فاكهة الصيف التي توجد في الأسواق بين 3 و4 أشهر، وذلك من شمال البلاد إلى جنوبها.
تنتشر زارعة المشمش في مناطق محدودة المساحة بمصر لا تزيد عن 12 ألف فدان غالبيتها في مناطق صحراوية بمحافظتي الجيزة والفيوم (غرب). وتظل قرية العمار التي تضم 338 فداناً، مصدر الميراث التاريخي لزراعة المشمش التي أوصلتها إلى آفاق عالمية، بفضل ما يميز إنتاجها من لون أصفر فاقع مثل الذهب الصافي والرائحة العطرة والمذاق السكري الطيب، بما أحال المنتج إلى عمود فقري في حياة العائلات التي اعتادت زراعته منذ عشرات السنين.
تقول المزارعة الخمسينية شادية سيد أحمد لـ"العربي الجديد": "تعلمت الاعتناء بزراعة المشمش من جدي وأبي، وأحرص على توريث المهنة إلى أبنائي وأحفادي لأن المشمش من وجهة نظري ثروة عائلية ومصدر فخر يجعلني أشعر بالزهو أمام جيراني وأهل قرية العمار التي نالت شهرتها، بسبب طيب إنتاج أصنافها مثل منتخب العمار والحموي الذي يشبه مشمش مدينة حماة في سورية، وأيضاً هناك صنف كانينو الذي استحدث أخيراً".
على سلم مدرج مثل أهرامات مصر القديمة، يطلق عليه اسم "السبية" ينتقل العامل أحمد طه بين الأشجار ليقطف ثمار المشمش التي استوت على سوقها، ويضعها في جلبابه قبل أن ينزل إلى الأرض ليبدأ في رص المحصول بلطف في علب ورقية خشية تعرضه للتلف السريع. وهو يفضل جمع المشمش مع الساعات الأولى من الصباح كي يضمن توريدها للمحلات خلال فترة ما قبل الظهيرة، فالمشمش في رأيه ثمرة تحتاج إلى عناية فائقة منذ بداية زراعة الأشجار حتى يأتي المحصول.
وأشار طه إلى أن عدم العناية بالأراضي الزراعية والزحف العمراني في قرية العمار والمناطق الشهيرة بزراعة المشمش، أدت إلى تراجع مساحات المحصول من 10 آلاف إلى 3 آلاف فدان فقط بالأراضي القديمة التي تروى بمياه النيل، والتي تقع غالبيتها في محافظة القليوبية التي تنتج نحو 30% من إجمالي إنتاج المحصول في مصر. ويتبارى التجار للحصول على "مشمش العمار" باعتباره فاكهة سريعة الاختفاء يُقبل عليها صفوة المستهلكين، بينما تأتي باقي المنتجات من المناطق الصحراوية والأراضي الجديدة إلى أسواق الجملة حول العاصمة من أجل إعادة توزيعها على الأسواق الشعبية والمراكز التجارية، وهي لا تجد إقبالاً كبيراً من المواطنين أسوة بمشمش العمار ذي المذاق واللون المميز.
ويباع "مشمش العمار" لتجار الجملة بنحو 50 جنيهاً للكيلوغرام بزيادة 100% عن العام الماضي، في ظاهرة يعتبرها أهل "العمار" تعويضاً من الله، لما عانوه من خسائر استمرت طوال السنوات الثلاث الماضية، بسبب سوء الطقس الذي تسبب في ذبول الأشجار وأسقط أزهار المشمش قبل موسم الحصاد. ويجني التجار ثروات طائلة من تجارة "مشمش العمار" الذي وصل سعره إلى 90 جنيهاً للكيلوغرام، بينما تعرض باقي الأنواع بنحو 70 جنيهاً للكيلوغرام بسبب عدم قدرتها على منافسة "مشمش العمار" في الطعم وحلاوة الرائحة الذكية.
وفي العادة يُباع "مشمش العمار" بسعر يزيد عن 40% عن باقي الأصناف، باعتباره أفضل ما يقدم للضيوف على موائد الطعام والاستقبال، بينما يتهافت التجار على شراء باقي الأنواع التي تنقل إلى مصانع المربى والعصائر والمجففات. وتمنح تجارة المشمش عائلات العمار فرصة لتحقيق انتعاش اقتصادي وإنجاز مراسم الأفراح التي تتأجل طوال العام كي تتناسب مع موعد حصاد المشمش، ويبدلون ذهب المزارع بذهب الصاغة ودفع مهور العرائس. ويُباع غالبية المشمش في الأسواق الشعبية والمزادات الصباحية بالمزارع، وعلى رفوف المتاجر الكبرى التي تختفي منها بسرعة.
وساعدت الجمارك المفروضة على ورادات السلع الغذائية بنسبة تصل إلى 50%، وتراجع صادرات المشمش من سورية وتركيا إلى الأسواق المصرية، في انتعاش مبيعات المزارعين محلياً بعدما كانت تهدد الواردات فرص أهل" العمار" وأمثالهم في تحقيق مكاسب كبيرة. ويظل المنتج غير قادر على غزو الأسواق الدولية بسبب صعوبة منافسة أهم المصدرين من تركيا وإسبانيا، رغم أن وزارة الزراعة حاولت تحسين تقنيات الزراعة واختيار الأصناف المنافسة في الأسواق الدولية مثل مشمش "الكانينو".
وتظل قدرة أهل قرية العمار محدودة في تحويل المشمش إلى صناعة غذائية متكاملة، على غرار ما يفعله مزارعو تركيا وسورية من تجفيفه وصناعة قمر الدين وعصائر، لعدم وجود جهات تدعم هذه المشاريع التي تحتاج في رأي مزارعي العمار إلى خبرات فنية ورؤوس أموال لا يستطيعون تدبيرها.
