
ليست الغربة مجرّد حدثٍ طارئٍ في حياة المرء، بل لحظة انكسارٍ صامتة، تتسلّل خلسةً إلى الروح من دون استئذان. قد تبدأ في مطار، في شارع بعيد، في مكالمة لا يُفهم صوتك فيها، أو حتى في غرفة مزدحمة تعرف فيها الجميع، لكن لا يعرفك أحد حقاً. إنها تلك اللحظة التي تشعر فيها أنك خارج الإطار، أنك لا تنتمي إلى الصورة التي تُرسم حولك، ولا إلى الملامح التي تتكرّر أمامك. الغربة ليست أن تُسحَب من أرضك فقط، بل أن تُسحَب من نفسك، أن تفقد انعكاسك في عيون الآخرين. ولعلّ أقسى ما في الغربة أنها تجعلك تحسّ بأنك وحدك، بينما الحقيقة أن آلاف الأرواح تشاركك هذا التيه، وهذا الاغتراب الصامت.
يوماً.. كنتُ أجلس في ركن مقهىً صغير في مدينة لا أعرف أسماء شوارعها، أرتشف قهوتي الباردة وأتأمل وجوه العابرين. وشعور غريب يلفّ القلب، لا هو حزن كامل، ولا طمأنينة كاملة. فراغ فقط يشبه الوقوف بين لغتَين، بين رائحتَيْن، بين حلمَين لا يكتملان. هناك، في ذلك الركن البعيد من العالم، أدركت أن الغربة ليست مجرّد بُعد عن وطن، بل شيء أعمق، شيء يسكنك حتى في أكثر الأماكن ازدحاماً. الغربة لا تبدأ حين تغادر أرضك؛ بل حين تشعر أنك لم تعد تنتمي حتى إلى نفسك.
رغم ما يُقال عن الغربة، فهي ليست تجربةً فرديةً. إنها شعورٌ إنسانيٌّ مشترك، مرّ به كلّ من حمل حقائب الرحيل، أو حتى وجد نفسه غريباً في بيته، بين أهله، في لغة لا تشبه صوته، في مجتمع لا يعترف بوجوده. نحن نعيش في عالم يكبر كلّ يوم، لكن المسافات التي تفصل بين الناس لا تزال تتّسع بصمت. نتصافح، نبتسم، نعيش جنباً إلى جنب، لكنّ قليلين هم من يشعرون بأنهم "منتمون". كأننا نؤدّي أدواراً في مشهد طويل لا نهاية له، نتقن الأداء، ونتقن التخفّي.
لكن، ماذا لو كنا نستطيع كسر هذه الدائرة؟ ماذا لو كان بوسعنا أن نعيد تعريف الانتماء، لا باعتباره جغرافيا أو لغةً، ولا ديناً، بل باعتباره رابطاً إنسانياً يتجاوز الفوارق كلّها؟ ماذا لو كان بإمكاننا أن نصنع عالماً أكثر احتواءً، لا يُعامل الغريب طارئاً، بل إنساناً له مكانه، صوته، وله قصّة تستحقّ أن تُسمَع؟
الانتماء لا يولد من التشابه، بل من القبول. أن تنتمي يعني أن تُرى، أن تُسمَع، أن تشعر أن وجودك لا يُزعج أحداً، بل يُكمل اللوحة. وهذا لا يتحقّق إلا حين نفتح قلوبنا قبل بيوتنا، ونمدّ الجسور بدل أن نبني الجدران. حين نكفّ عن الخوف من المختلف، ونتعلّم أن نحبّ ما لا يشبهنا. فكلّ غريب يحمل في داخله عالماً، وخلف كلّ وجه لا نعرفه، حكاية قد تُغيّرنا لو أصغينا لها.
ولذلك، نحن بحاجة إلى أن نعيد تصوّر العالم، لا أماكنَ منفصلةً يحكمها الجواز والحدود، بل شبكةً من القلوب التي تبحث عن الاعتراف. حين نبدأ بالاعتراف بأن الغربة لا تخصّ المهاجرين فقط، بل تمتدّ إلى كلّ من يشعر بالعزلة، سنفهم أن الحلّ ليس في منح الإقامات فقط، بل في منح القلوب أماكن شاغرة. نحن لا نحتاج إلى قلاع، بل إلى مقاعد متقابلة، وإلى طاولات مستديرة نجلس حولها من دون حكم مسبق، ولا خوف.
ويا للعجب، كم يكون العالم أكثر دفئاً حين تُكسر الحواجز، حين يفتح لك شخص ما بابه وقلبه، لا ليسألك من أين أنت، بل ليقول: "أنا هنا، وأنا أسمعك". حين يعاملك لا ضيفاً مؤقتاً، بل رفيقَ رحلة. هذه اللحظات الصغيرة هي التي تخلق وطناً جديداً لا تحدّه الخرائط، بل تسكنه الأرواح.
ثمّ من قال إن الغربة قدر؟ لعلّها بداية، نقطة انطلاق نحو إنسانية أكثر نضجاً. وحين نبدأ بالنظر للناس من خلال قصصهم لا جنسياتهم، ومن خلال وجعهم لا ألوانهم، نكون قد بدأنا فعلاً في بناء عالم أكثر احتواءً، عالم لا يُقصي أحداً، ولا يخجل من اختلافاته.
ربّما لن نستطيع أن نمحو الغربة تماماً، لكنّها ستظلّ أقلّ قسوةً حين يعرف الإنسان أنه، وإن كان غريباً في المكان، فهناك من يحتضنه في المعنى.
