
عالمٌ يوحي بأنّه غير واقعي، لشدّة ما فيه من غرائبيّة تقترب من سوريالية، يصعب إدراك كُنهها. الأسود والأبيض غالبان، فالعيش في مستعمرةٍ، تبدو منفصلة عن العالم رغم أنّها تعاين أحوال أناسٍ حقيقيين في هذا العالم نفسه، يكاد يُحاصَر بين أسود كثيف وطاغ، وأبيض محفوف بسواد وسوداوية. كلامٌ يعكس مخاوف وأحلاماً ومواجع وأعطاباً، لكنّه، في الوقت نفسه، يعكس وقائع مُعاشة في تلك المستعمرة، كما في غيرها من مدن وبلدات، لن تختلف كثيراً عن المستعمرة نفسها.
هذا أساس "شرق 12" (2024) للمصرية هالة القوصي، المعروض للمرة الأولى دولياً في النسخة الـ56 لقسمِ "أسبوعا السينمائيين"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ". تفسير العنوان (يتردّد أنّ "شرق الظهيرة" عنوانه الأول) يقول إنّ المستعمرة شرقٌ، فالناس فيها يتكلّمون اللهجة المصرية، رغم أنّ يومياتهم مفتوحة على بيئات شرقية. والرقم 12، كما يُقال، يُشير إلى ظهر كلّ يوم، مع أنّ لحظاتٍ، زمنية ودرامية، تشي بليلٍ ثقيلٍ.
لكنّ البنية الدرامية أهمّ من كلّ تفسير، وإنْ ترغب هالة القوصي في إيحاءاتٍ، يمتلئ بها فيلمها الروائي الطويل هذا. والنصّ (كتابة القوصي) قائمٌ بين خيال جامح في ابتكار أشكال بصرية لوقائع عيش، وواقعية قاسية لأفرادٍ يعانون أنواعاً جمّة من البطش والتسلّط، و"الأعلى" رتبة في النظام المتحكّم بهم وبهنّ يعاني، بدوره، بطشاً وتسلّطاً داخليَين.
أمّا الإشارة إلى أنّ الحيّز/المكان/الفضاء، في البيئة المرويّ عنها في "شرق 12"، مستعمرة، فمنبثقٌ من مفهومٍ متداول للكلمة، بمعانيها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وهذا يتّضح في سياق سرد الحاصل فيها، مع أفرادٍ، يكاد الإيجابيّ بينهم/بينهنّ يختفي كلّياً، وإنْ يظهر، ولو قليلاً للغاية في 109 دقائق، فظهوره عابرٌ إلى حدّ عدم لفت الانتباه. هذا لصالح الحبكة/الفيلم، فالنصّ البصري مبنيّ على أفراد محبطين ومقهورين ومتألمين، وهذه حال كثيرين وكثيرات.
الانعدام شبه الكامل للحدّ بين الواقع واللاواقع في "شرق 12"، وهذا أساسيّ سردياً ومهمّ بصرياً وقاسٍ جمالياً، يحول دون أي تمكّن من اختزال "قصة" تُروى بصُور كثيرة، وكلامٍ غير حاجبٍ قدرة الصُور على إكمال ما يُقال، كما على قولٍ من دون كلام. لكنّ الانعدام هذا قابلٌ، أيضاً، لاختزالٍ، لن يُلغي متعة المُشاهدة وضرورتها، ولن يمنع تأمّلاً في خرابٍ فردي/جماعي: أفرادٌ عديدون؛ شبابٌ وعجائز وما بين الشباب والشيخوخة، يتخبّطون في بيئة مغلقة، يتحكّم بها من يُمكن وصفهم بـ"تجار" يعملون في كلّ أنواع التجارة، من الضروريات شبه الغائبة إلى السياسة والاجتماع والسلطة.
والحبّ حاضرٌ. والعلاقات البشرية (بعضها "سويّ"، وإنْ بدرجات مختلفة) تمتلك شرطها الانفعالي، وإنْ في حيّز، جغرافي ـ نفسي ـ تربوي، ضيّق وخانق ومعقود على بطش وارتباكات، وعلى مخاوف تحرّك ما في الفرد من وحشية وقسوة، أو من ضعفٍ وخيبة، أو من استسلامٍ يعجز، إجمالاً، عن أنْ يكون كاملاً، فهناك ثقوبٌ يُمكن لشبابٍ النفاد عبرها من جحيمٍ أرضيّ.
لهندسة الديكور (عمرو عبده) دورٌ في صُنع جماليات الحبكة والفضاء الاجتماعي النفسي التربوي، والأخير (التربوي) يعني تراكمات وموروثات في صُنع سلوكٍ بشريّ، هناك من يرى ضرورة الانفضاض منه والانقلاب عليه. والمونتاج (القوصي وبوبي روُلْفُس) يربط المتتاليات البصرية في سياقٍ درامي تصاعديّ، يغلي بأعطابٍ (غالبها نفسيّ)، وقلاقل ومواجهات وانكسارات، وهذه كلّها تصنع الحبكة، بما فيه من براعة التقاط المُقدَّم بصرياً وحكائياً، كما المبطّن في ثنايا حركة وملمَح وتعبير صامت وكلامٍ مكثّف. أمّا التمثيل (منحة البطراوي وأحمد كمال وعمر رزيق وفايزة شامة في الأدوار الأساسية)، أو معظمه، فمتناسق وشخصياتٍ، شابّة وكهلة، تبغي خلاصاً من لحظةٍ، آنية وماضية، بكلّ ما فيها من مشاعر متضاربة.
بداية السرد معقودةٌ على صوتِ راويةٍ يقول التالي (بلهجة مصرية محبّبة، ونبرةٍ مُريحة رغم قسوة ما يُقال)، والتالي يُذكِّر ببدايات الحكايات العربية القديمة: "كان يا ما كان، ناس خايفة، من كُتْر الخوف، خيالهم هرب" (كان يا ما كان، هناك أناس خائفون، من شدّة خوفهم، هرب خيالهم). هذا (الخوف والخيال الهارب، والناس طبعاً) منطلَقٌ درامي يُبنى عليه "شرق 12"، الذي يُعرض في "سينما زاوية" في القاهرة بدءاً من 25 يونيو/حزيران 2025 (لأسبوعَين). هذا واضحٌ في شخصيات مُقيمة في أمكنةٍ مليئة بغبار وفوضى ومتاهات، ينقلها تصوير سينمائي (عبد السلام موسى) بتفاصيلها، إلى حدّ أنّ الشاشة تُخفي كلّ حدٍّ بين الغبار والفوضى والمتاهات، ومُشاهِدٍ متابع لمَن وما يُقيم فيها كلّها.
اللقطات الملوّنة، القليلة للغاية، تعكس حلماً لثوانٍ، كأنّه خلاصٌ من كلّ شيء: "الغرق" (مجازياً) في بحرٍ، يُراد منه اغتسالٌ، أو ذهابٌ إلى خارج الحصار، والحصار جدار وبيئة وتقاليد وحكم، وذاتٌ أيضاً. لكنّ بعض لقطات البحر طويلة، قياساً لمضمونها، مع ما فيها من رمزيةٍ: أناس جامدون، أو يُشَبَّه للمشاهدين/المشاهدات أنّهم جامدون، في بحرٍ سيكون تعبيراً عن اغتسال وتطهّر وتحرّر وخلاص. كما أنّ الموسيقى (أحمد الصاوي) كثيفةٌ أحياناً، إذْ يُمكن الاستغناء عن بعضها، ففي لقطات عدّة ما يكفي لإثارة انتباه أو انفعال أو تأمّل أو متابعة.

Related News
