
عاد اسم أول صيّادة في غزّة إلى الواجهة الإعلامية. أجرت معها كاتبة هذه السطور لقاءً صحافياً قبل سنوات بعيدة، وكانت في مقتبل مراهقتها، ترتدي ملابس البحّارة الرجال. أمّا اليوم، وفي هذه الظروف القاسية التي تحيط بقطاع غزّة المنكوب والنازف، إذ أصبح جرحه اليومي متوارياً عن واجهة الأخبار، مع تصدّر الحرب الإيرانية الإسرائيلية المشهد الإعلامي، تكتشف أولاً أن غزّة تلفظ أنفاسها ببطء، وفي الخفاء، وأن حلقات المسلسل الدموي الذي بدأ منذ قرابة العاميَن مستمرّة بالوتيرة نفسها، لكنّ الفارق أن كل القتل والقصف والإبادة يجري بعيداً من أعين الإعلام.
وفيما يعمد الاحتلال إلى قطع الاتصالات عن القطاع منذ أيام، فيمنح بذلك مزيداً من الراحة لوحشيّته المتفجّرة، لتستمر أعمال المسح والنسف في مناطق واسعة شرق خانيونس تحديداً، تمهيداً لخطّة مقبلة لتقسيم القطاع بين كانتونات سكانيّة منفصلة... في خضمّ هذا كلّه، لا يزال اسم "مادلين" يتردّد. الفتاة التي كانت في الثالثة عشرة من عمرها حين ركبت البحر، ثمّ أصبحت امرأة ناضجةً تظهر في الإعلام باستحياء، بعد أن دكّتها الحرب مع عائلتها، وفقدت مصدر رزقها. كانت تصيد السمك فوق قارب صغير بدلاً من والدها، ثمّ زوجها. وبينما كانت مادلين تجابه البحر وجبروته، ها هي اليوم تبدو منهكةً لا تقوى حتى على إقناعنا بأنها لا تزال صامدةً، بعد أن فقدت كلّ شيء، كما معظم أهل غزّة، بقي اسمها شاهداً على الصمود.
وكانت سفينة كسر الحصار التي حملت اسم "مادلين"، ومنعها الاحتلال من الوصول إلى شواطئ غزّة، تواصل رحلتها الرمزية. مادلين، ابنة البحر، التي لم تكن تحلم سوى بلقمة عيش آمنة، بعيداً من مطاردة البوارج البحرية التي تطلق القذائف على من يتجاوز حدود الصيد، التي فرضها الحصار المستمرّ منذ ثمانية عشر عاماً، أصبحت رمزاً لصمود المرأة الغزّية، وتحدّيها وكفاحها الذي لا ينضب.
كانت السفينة مادلين تأمل أن توصل رسالةً إلى العالم بضرورة التضامن مع غزّة المنسيّة ولو بشكل رمزي. وهي جزء من تحالف "أسطول الحرية لتحرير غزّة"، الذي تأسّس قبل نحو 15 عاماً. وللمفارقة، كانت هذه السفينة الثانية خلال شهر تحاول كسر الحصار، بعد أن تعرّضت السفينة الأولى لقصف أضرم النار في مقدّمتها، أثناء وجودها في المياه الدولية، وسط تواطؤ السلطات المالطية التي كانت قد أعلنت أن الحريق نتج عن أسباب مجهولة، ولم تفتح تحقيقاً في ملابساته.
وفيما كانت السفينة مادلين تتعرّض للقرصنة على يد مجرم متغطرس لا يخشى العقاب، وفي ظلّ التعتيم الإعلامي على مصيرها، لم يتورّع الاحتلال، في صباح 9 يونيو/ حزيران الجاري، عن قتل نحو 75 فلسطينياً حاولوا الوصول فجراً إلى فخاخ المساعدات التي تُعدُّها إسرائيل بغطاء أميركي، مستغلّةً جوع الغزّيين، الذين لم يدخل إليهم الطعام منذ أكثر من ثلاثة أشهر.
وسط هذا الإحباط المخيّم، تطرق بابك في القاهرة، حيث غربتك القسريّة، شابّة أميركية مسلمة تدعى زينب. وما أن تعرف جنسيّتك، وأنك أحد الناجين من المقتلة، حتى تعانقك بحرارة، وتنسى سبب قدومها، لتحدّثك بدموعها عن تضامنها وعائلتها من هناك، من قلب بلاد يحكمها شيطان مجنون، مع أهل غزّة، وصلاتهم المستمرّة كي يتوقّف قتل الأطفال. تحكي لك كيف أن مشاهد أشلاء الأطفال أفقدتها شهيّتها للطعام، فاضطرت للجوء إلى طبيب نفسي بعد أن تدهورت حالتها الصحّية.
في العالم كلّه، تكتشف أن لا أحد يحبّ الحرب، ولا يفكّر في سوقها إلى الأرض إلا الأنظمة الديكتاتورية، التي لا يهمّها مصير الإنسان ولا حياته اليوميّة، وتتحكّم في سلوكها العقائد لا السياسات البراغماتية. وهي أنظمة لا تتراجع ولا تعلن استسلامها، حتى ولو كان الثمن فناء الإنسانية جمعاء.

Related News

