سنّ لومومبا
Arab
4 hours ago
share

شهد العالم في يونيو/ حزيران 2022 لحظة رمزية عميقة الدلالة، حين أعادت بلجيكا إلى الكونغو الديمقراطية سنّاً واحدة من رفات الزعيم الأفريقي باتريس لومومبا، الذي دبِّرت اغتياله في عام 1961. كانت هذه السنّ كل ما تبقّى من جسد رجلٍ رفض أن يبيع حلم الاستقلال أو أن يُروَّض ليلائم شروط المستعمِر. قُتل، قُطِّع، وأُذيبت جثته في حامض الكبريت، في محاولة لإخفاء أثر الفكرة التي جسّدها. لكن الرمز، كما تُعلّمنا الحرية، لا يموت، وإن بدا ذلك مؤقتاً. حتى إن تلك "اللفتة" التطهيرية البلجيكية المتأخّرة، بكل سخريتها، كشفت عن حقيقة أن الذاكرة لا تموت، وأن التاريخ لا يُدفن بسهولة، خاصة حين تتولى السينما مهمة استعادته وإعادة تقديمه للأجيال. ولأن السينما هي ضمير الأمم وذاكرتها، فقد جرى حديثاً (2024) إخراج فيلم وثائقي يؤرّخ للدور الاستعماري لبلجيكا وأميركا في اغتيال باتريس لومومبا. في فيلم "Soundtrack to a Coup d’État"، وبترجمة حرفية يصبح العنوان "موسيقى تصويرية لانقلاب"، لا يُقدَّم لومومبا زعيماً أفريقياً منعزلاً، بل يُدرَج ضمن مشهد عالمي لزمن التحرّر، حيث تشكّلت جبهة من زعماء وشعوب كانت تحلم بكسر النظام الكولونيالي من الداخل. يوثّق الفيلم لحظة صعود جمال عبد الناصر رمزاً لحركات التحرّر الوطني وسياسة عدم الانحياز، ويستقرئ حضوره في مؤتمرات باندونغ ولقاءاته مع نكروما وسوكارنو وتيتو، كجزء من محاولة تأسيس "عالم ثالث" مستقل. يحفر الفيلم ضمن تيار متدفّق لسينما الذاكرة، وهو تيار يعيد تمثُّل الماضي بوصفه تجربة معيشة، حيث تتحوّل الصورة إلى وسيلة استعادة وتأويل، من دون أن تكون مجرّد استعادة مُتْحفية للزمن، بل مساءلة له، إذ يفتح الفيلم مساحات للنقاش العام حول المخفي في الذاكرة الفردية أو ذاكرة البلاد التي حازت نصيبها من خرابٍ عام. لهذا، في السياقين العالمي والسوري، تكتسب سينما الذاكرة أهمية استثنائية؛ فهي لا تؤرشف فقط، بل تنقّب في الحزن المنسوج في تاريخ الأوطان، وتُعيد ترتيب مشاعر الخسارة خارج مرويات المستبدّين. وهي، ربما، الشكل الفني الأصدق لاستمرار الرواية، حين يخفت صوت المؤرّخين، وتكفّ السياسة عن طرح الأسئلة الكبرى. أين سورية من هذا كله؟ في الستينيات، حضرت سورية شريكة في الحلم الناصري الوحدوي، العروبي، والأممي ربما، اشتعلت بحماسة الشارع، وأنّت من مرارة الانفصال. وحين جاء حزيران 1967، لم تكن الهزيمة عسكرية فحسب، بل روحية ووجودية. سقط الحلم القومي في لحظة، أمام أعين من صدّقوا أن التحرّر ممكن، وأن القاهرة ودمشق تستطيعان تشكيل جبهة في وجه الاستعمار والصهيونية. كان سقوط الجولان، وذلّ الانسحاب، وموت الأمل، امتداداً لاغتيال لومومبا وحركات التحرّر العالمية معاً، حيث حضر الخذلان في الروح السورية بعد النكسة، التي لم تُدعَ هزيمة أبداً، وحضر بأدب النكسة وسينماها أيضاً. واليوم كما الأمس، تحتاج سورية سينما الذاكرة، لأنها أداة حيوية لحفظ التجارب المعقّدة التي مرّت بها البلاد في سنوات الصراع منذ 2011، لا لكونها مجرّد توثيق بصري للأحداث، بل باعتبارها أداة لتشكيل الهوية، وطريقة للتسامح مع الذاكرة التي شوّهها العنف والمجازر، والتهجير الذي أدّى إلى تغييرات ديموغرافية عميقة، فسينما الذاكرة، بوصفها جنساً فنيّاً، تتجاوز السرد التقليدي لتصبح شهادة حيّة على آلام الحرب وتجارب المهزومين والمنتصرين، حيث تعمل على إعادة تركيب مغاير لأنماط الانهيارات الفردية والجماعية. كأنّ سورية اليوم، إن في سينماها أو في مروياتها جميعاً، تلاحق سنّ لومومبا، شاهداً وحيداً على ذاكرة وطن أذابته الحرب، لكنه يرفض التلاشي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows