السينما السورية: عن أفلام لم تؤثر في أحد
Arab
5 hours ago
share

يستوعب موضوع السينما السورية مقالات ودراسات عدّة. لكنّ المسألة صارت جزءاً من الماضي، وبديهي أنْ يُنظَر إليها من زاوية تاريخٍ يجب التعلّم من أخطائه.
الخطأ الأول يكمن في التسمية، فهناك "أفلام" سورية، لا سينما بالمعنى الحديث للكلمة. هذا إنْ لم تنتمِ الأفلام المُنجزة إلى مدارس وأساليب فنية مستوردة. من هذه التأثّرات ما سُمّيَت لاحقاً بـ"سينما المؤلّف"، وهذا موضوع تصحّ مناقشته في حال استمرّت هذه " السينما" حَيّةً. لأنّه، كما تبدو عليه عقلية صانعي الأفلام، ستستمر "سينما المؤلّف" عرفاً ثقافياً، يتبوأ فيه المخرج ـ الكاتب موقع السلطة العليا للفيلم، منذ الفكرة الأولى إلى عرضه الأخير، بغضّ النظر عن بقاء السينما نفسها من عدمه.
اعتمد الجمهور تعريفاً يخصّه للسينما. بالنسبة إليه: فيلم ناجز + صالة + جمهور. أما باقي عملية الصنع فلا تعنيه، إذْ ليست هناك بيئة سينمائية في الثقافة العامة، ولا مراكز بحوث سينمائية، ومعارف ثقافية عامة تُشكّل سلوكنا نحوها، ولا عملية اقتصادية يمكن للجمهور الانحياز إليها على أنّها منتج محلي.
منذ عودة سينمائيين سوريين من بعثاتهم إلى الخارج أواخر الستينيات، طرأت على تعريف السينما تغيّراتٌ عدّة، أوّلها هجاء هؤلاء السينمائيين الأفلام المعروضة آنذاك، فأُلصقت تُهَم السينما التجارية والهابطة والرأسمالية والتافهة على تلك الأفلام، في طلب مُبطّن لإتاحة الفرصة لهم لتقديم "تُحفهم" الفلميّة، ليفهم هذا الجمهور ما السينما الراقية. أوجدت أفكارهم هذه وليداً، ليس لقيطاً، اسمه "سينما المؤلّف"، قياساً بتاركوفسكي وفلّيني وبونويل وغيرهم. أي من حيث أتوا بمعارفهم السينمائية، من دون أي اعتبار لثلاثية "فيلم، صالة، جمهور"، وقدّموا أفلامهم بفردانية، تشبه قصائد الشعراء، نوعاً ثقافياً جديداً، مُشترطين على الجمهور أنْ يكون جاهزاً له، من دون اعتبارات الفشل والنجاح. فالمهم في هذا كلّه أنْ يُقدّم "المخرج" قصيدته مخربشاً على جدران الحياة. سار الأمر هكذا إلى الآن، مع استثناءات قليلة.
لن أذكر الأفلام التجارية الكثيرة التي أنتجها المنتجون السوريون وحدهم، أو بالشراكة مع لبنانيين ومصريين، فبمجملها أفلام ترفيهية أحبّها الجمهور، وقُصِفت بأقلام هؤلاء السينمائيين المتعلّمين. ربما كانت بداية طريق سينمائية، يُموِّل فيها الترفيهي الفيلمَ "الجاد". هذه معادلة معروفة، يُعمل بها في كلّ العالم. لكنّ هؤلاء السينمائيين طاردوا هذه الأفلام، وكلّ فيلم لا يُثبت تقدّميته وأكاديميته. في محصلة هذه المطاردة، ماتت السينما نفسها، وبقي "فيلم المؤلّف" يتيماً، رغم وجود أب يتباهى به، ما يعني موت صالة السينما، وانتقالها إلى صفحات الجرائد التي تذكر جوائز الفيلم ومحاسنه.
طبعاً، هناك كواليس صنع هذه الأفلام، ليس صعباً التقاط أخبارها. فهذا فيلمٌ وحيد يُنجز في عام أو عامين، وحوله حشدٌ من المهتمّين المتلصّصين، يتلقّفون كل شاردة وواردة، ويتهامسون بها من دون إعلانها. تفاصيل مخجلة، مضحكة ـ مبكية، ناتجة عن الغيرة والتنافس غير الشريف بين هؤلاء المؤلّفين المخرجين، ما يُفقد النقد مهمّته الإبداعية التنافسية، وهذه بحدّ ذاتها ممارسة هدّامة، لم ينتبه إليها هؤلاء المتعلّمون. في الأحوال كلّها، لم يدرك هؤلاء أنّ بقاءهم السينمائي مرتبطٌ تماماً ببقاء السينما، لكنّ السينما نفسها، بمشاركة جهودهم، غادرت منذ زمن طويل. في آخر الأمر، أفشت هذه الكواليس أسرارها عن عملية فردانية، تؤول برمّتها الى المخرج، القائد الأعلى لصنع فيلم.
في السينما العالمية، هناك مخرجون مؤلفون كثيرون، يكتبون سيناريوهات أفلامهم، كفيلّيني وبونويل. لكنّ الملاحظ هنا أنّهم لم يكتبوا بمفردهم، ولم يهيمنوا على المشاريع التي صنعوها، رغم استعادات كثيرة من أقوال لهم، وتصرّفات قاموا بها. لم نشهد في "سينما المؤلّف" السورية تاركوفسكي واحداً، أو فلّيني حاذقاً. من جهة أخرى، كانت المشاريع الفيلمية لهؤلاء من ضمن الحراك السينمائي الغني لكلّ أنواع الأفلام، وليس لإنتاج فيلم واحد في العام، في خروج صالة السينما من الاستخدام العام.

لم تبدُ "سينما المؤلّف" السورية سينما حقيقية، ولا أفلاماً مُكتملة الأركان، رغم مشاركتها في مهرجانات صغيرة كثيرة، ونيلها جوائز عدّة

أخيراً، يمكن السؤال عمّا قدّمت هذه الأفلام، وأينها الآن. فباستثناء "رسائل شفهية" (1991) لعبد اللطيف عبد الحميد، و"كومبارس" (1993) لنبيل المالح، اللذين حقّقا حالة ترفيهية ومشاهدة ممتعة للجمهور، يصعب القول إنّ هناك فيلماً حقّق نجاحاً بالمعايير السينمائية المتداولة، وربما أتطرّف في قول "حتى في المعايير النخبوية"، التي تبنّاها هؤلاء، لم تُعطِ نتائج مقبولة. ففيلمٌ مبنيّ على هجاء جمال عبد الناصر والناصرية، بحسب الأقوال المُسرّبة من الكواليس، يخرج إلى الجمهور بعكس ذلك: "أحلام المدينة" (1984) لمحمد ملص. أمّا "علاقات عامة" (2005) لسمير ذكرى، فكنتُ أنا مُشاهده الوحيد في الصالة. من دون نسيان تحميل الجمهور ذنب عدم الاستيعاب، فيما الجمهور نفسه شاهد حينها أفلاماً كبيرة ومشهورة.
لم تبدُ "سينما المؤلّف" السورية سينما حقيقية، ولا أفلاماً مُكتملة الأركان، رغم مشاركتها في مهرجانات صغيرة كثيرة، ونيلها جوائز عدّة، والاحتفاء بأصحابها مخرجين واعدين. إلاّ أنّ الحال المحلية بمآلاتها لم تعطِ أهمية تُذكر لهذه "الجهود" الفردية، فلن يأتي يومٌ يقول أحدهم فيه "كما قال أو فعل فلان" في "تراب الغرباء" (1997) لذكرى أو "الليل" (1992) لملص، بينما ستصادف حتماً من يستشهد بكلام دون كورليوني في "العرّاب". 
هذا النوع من الأفلام وصنّاعه، أحد أنواع التعالم، يفرضه المتعلّمون من دون أنْ يعرفوا، أو يعترفوا بتأثير نوازعهم الفردانية على فعالية أكثر من جماعية. فهذا أولاً إنتاج ثقافي من المجتمع.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows