
في مواجهة تضليل الإعلام الغربي بسبب خضوعه إلى السردية الإسرائيلية، قرّر جان-بيار فيليو، أستاذ العلوم السياسية بباريس، أن يعيد صلته بغزّة المغتالة وأن يستكشف الحقائق بنفسه في خضم الأكاذيب التي يغرقه فيها إعلام بلاده. فكان أن اندمج في وحدة "أطباء بلا حدود" ورجع إلى القطاع الذي زاره مرات وكتّب عن تاريخه مؤلّفاً في جزأين (2012). وهكذا، أقام فيه طيلة شهر امتد من نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2024 وحتى يناير/ كانون الثاني 2025، جمّع خلاله شهادات الأهالي وأبصر بعينيه ما غيّبه الخطاب الرسمي، فظاعاتٍ صارت اللغة عاجزة عن تصويرها.
فقد اعتاد إعلام الغرب، حين يصف ضحايا الحرب، أن يختم الخبر بصيغة ماكرة: "حسب حركة حماس الإسلامية" تشكيكاً في المجازر كما اعتاد التسوية بين "آلام" عائلات المحتجزين ومآسي أكثر من خمسين ألف ضحية، جلهم من الأطفال والنساء، بدعوى الموضوعية وضرورة "سماع أصوات كل الأطراف". فحيال هذا التعامل المُغرض مع حرب الإبادة والتدمير، صاغ فيليو شهادته وأصدرها في كتاب بعنوان: "مؤرخ في غزة" (دار لي أريين/ باريس، 2025)، في 224 صفحة قسمها إلى تسعة عشر فصلاً، لكل واحد منها عنوان مثل: الصدمة، المستشفيات، الموت، الماء، الانتظار..
إلا الرمادي، مُدن الموت بلا ألوان
خصّص الكاتب صفحات عديدة من كتابه لوصف العتمة الرمادية التي تهيمن على قطاع غزة، بعدما نُسف فيه كل شيء ودُمّرت مبانيه، فصارت الأحياء أكواماً من الأنقاض الرتيبة، تنطوي أحشاؤها على مئات الضحايا وقد عجز الناس عن إنقاذهم. كانت صدمة الكاتب هائلة، فقد سبق له أن عرف مدن غزة وجاب أحياءها حين كانت "واحة". أما الآن، فيُنكر ما يشاهده ولم يعد يتعرّف إلى المعالم التي ألفها قبل، في أمواج الخيام التي تغطي كل شيء. غزة تحوّلت إلى متتاليات من أكوام بيوت مهشّمة، لا لون لها سوى هذا الرمادي من أثر النسْف والتحريق، أكوام تخفي أجساداً كانت بالأمس تحلم وتأمل.
عاين التلاعب في توزيع المساعدات التي تنهبها أطراف مأجورة
فالموت منتشر في الأرجاء حاضر في كل مكان وفي كل لحظة. وكل قرار "إخلاء" تتبعه حركات عشوائية، تضرب من خلالها الطائرات البشر والحجر ناسفةً ما تبقى من مبان يلجأ إليها الناس يائسين. وصف فيليو هذه الحقائق التي يتجاهلها صحافيو الغرب مكتفين بتعداد فاضح لعدد القتلى، مجرد رقم يلقى ضمن خبر سريع، كأنه لا يُحيل إلى حياة بشر أبيدوا بدم بارد.
ولذلك، انتقد صاحب "كيف ضاعت فلسطين" (2024)، التدمير المنهجي والتقتيل المقصود لغزّة شعباً وأرضاً، مضيفاً أنه لم يرَ شيئاً يُشبه هذا الدمار في ساحات حربٍ مرّ بها: بدءاً من سورية والعراق وأفغانستان والصومال وصولاً إلى أوكرانيا. فليس هذا الدمار ناتجاً عن ضربات متناثرة، بل عن خطّة طويلة المدى، يُحرّكها ثأر أعمى وحقد دفين على الفلسطينيّين، بهدف قتلهم جميعاً، بعد أن يُذاقوا "الجحيم".
ويسترجع الكاتب شهادات الأهالي الذين تحدّث إليهم، وكلّها تعبّر عن الصمود والصبر أمام الكارثة. فقد دوّن، مثلاً، ما صرّحت به زوجة صحافي فقدت عدداً من أفراد عائلتها: "سنبكي موتانا بعد أن يحلّ السلام"، فأهل غزّة يعيشون مأساتهم بكرامة وإباء راضين بقدَرهم مستمرين في التضحيات. وبما أنه دخل غزّة ضمن مهمة إنسانيّة رفقة "أطباء بلا حدود"، فقد عاين التلاعب في توزيع المساعدات التي تتعرّض لعمليات نهب واسعة من أطراف مأجورة، توفر لها إسرائيل الحماية بقصد بثّ الفوضى في القطاع وإثارة الأهالي ضدّ إدارة حماس. ويؤكد أنّه لم يُسجّل احتجاز حماس لتلك المساعدات الشحيحة ولا الاستئثار بها دون الشعب. فما يقال جزء من بروباغندا إسرائيليّة تبرر جريمة التجويع الهادف بدوره لمزيد من إثارة البلبلة.
في احتلال اللغة ومُستخدميها
وتهيمن على فصول الكتاب صورة عجزٍ عن إيجاد الكلمات المناسبة للإحالة على الفظاعات التي شاهدها منذ أن ولَج أرض غزّة ليلاً عبر "الممر الإنساني". استهلكت اللغة كافة صيغ المبالغة والتشديد وقصُرت مفرداتها عن الإحالة إلى الأهوال المنتشرة في كل الأرجاء. بات التحدي في تخليص الخطاب من آثار التلاعب الرسمي بما يجري في تلك البقعة ومن تحكم آلة التضليل بمعاني الكلمات اختياراً وتحويراً وتغييباً حتى تختزل الحرب في "انتهاكات" أو "عنف"، يحظر تماماً مقارنتها بمبدأ "الإبادة" وذلك بالتصرف في حمولات الكلام وطاقاته الإيحائية بل ومحاصرتها حتى لا تصف هذه الجريمة.
بأسلوبه الوصفي - السردي، سعى فيليو إلى نسف طوق يفرضه الإعلام الغربي على طبقات اللغة حتى يمنعها من الاستحضار الدقيق لجرائم الحرب ضمن استراتيجيات خطاب ماكرة، تخلي الضمير من مسؤولياته الأخلاقية والقانونية. وأقرّ بأن أي لغة قاصرة عن الإحالة إلى هذه الأهوال، لا لأنها غامضة أو مشكوك في صحتها، بل لأن موارد الكلام أفقر من أن تدل على ذرى المعاناة الناجمة عن تدمير منهجي لا-إنساني يطاول شعباً بأرضه وذاكرته، أمام صمت دول الغرب المكتفية بصيغ إدانة باهتة. وانتقد فيليو عناصر الخطاب الإسرائيلي النابع من ماكينة الدعاية، تلك التي تصم سكان غزّة كلّها بالإرهاب، مع الترويج بأن حماس هي سبب إطالة أمد الحرب. ولذلك يصف هذا الخطاب "بالسردية الفقيرة المنفصلة عن الواقع" المشوِّهة للعقول، على أنها أثّرت في المخيال الأوروبي لا سيما في الأشهر الأولى من النزاع.
استفاقة ضمير لا يزال مُحتلاً
خلص الكاتب إلى أن مأساة غزّة "كونيّة"، تعني كلّ ضمير إنساني وتشير إلى القاع الذي تدنّت إليه القيم البشريّة، بعدما انتُهكت فيها أدنى حقوق الإنسان وأولها حقّ الحياة، وبعدما أُقصيت الأمم المتّحدة بكلّ هيئاتها ومزقت الأنسجة الثقافية وغُيّبت قواعد الأخلاق ومبادئ القانون التي ظنّ الإنسان أنّها بديهية، ومن حق أي فرد في هذا العالم أن يتمتّع بها.
هل الفظاعة لا تبلغ ذروتها إلا إذا شهد عليها أكاديمي غربي؟
ورغم جسارة المؤرخ في تصوير جحيم غزة، فإننا لا نفهم رفضه توصيف هذه الحرب بالإبادة، وتفضيله نعت: "اللاإنسانيّة"، في حين أن كل سطرٍ من كتابه يوثّق لجريمة إبادة تُقترف بمنهجيّة وتهدف إلى القضاء الكلي على شعب برمته واحتلال أرضه بعد تدمير مقوّمات وجوده الطبيعيّة والثقافيّة في المدى المنظور. فإن لم تكن هذه إبادة، فماذا نسمّيها؟ وأما تعليله بضرورة ترك المجال مفتوحاً للنقاش القانوني فلا يستقيم.
واللافت أيضاً أن الكاتب يتجاهل وسائل الإعلام العربية وخصوصاً القطرية، التي أوصلت صورَ غزّة وأصوات أبنائها إلى العالم، مضحية بخيرة صحافيّيها الذين جنّدتهم على عين المكان. ومثل بقية الإعلاميين الفرنسيين، يُغفل المؤرخ ما هو يقيني: تلك الصور التي صدمته لم تتوقّف قنواتُنا عن نقلها للحظة واحدة. ولعل هذا الإغفال من رواسب التعالي التي يصعب قبولها. فهل الحقيقة لا يمكن أن تصدر إلا عن مؤرّخ فرنسي؟ وهل الفظاعة لا تبلغ ذروتها إلا إذا شهد عليها أكاديمي غربي؟
ورغم ذلك، يترجم الكتاب استفاقة ضمير وصحوة عقل يشهدان على أقسى كارثة راهنة، وإن كنا نختلف معه في العديد من أحكامه واستنتاجاته. قُدّمت هذه الشهادة في أسلوب أدبي يقترب من سرد رحلة استكشافية في ساحات الوغى. فهل كان ذلك تقيّة منه حتى يتمكّن من تمرير رسائله في الوسط الثقافي والسياسي الفرنسي الذي عرف تضييقات كبيرة رغم تغير الخطاب الرسمي نسبيّاً؟ شهادة مرحب بها، لكن الإقرار بحصول جريمة إبادة لم يعُد يحتاج إلى كلّ هذا الحذر، كما أنه تأخّر كثيراً.
* باحث وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس

Related News
