
لدى السينمائي اليوناني كوستا غافراس (1933)، شغف عميق بأن يجوب العالم، ليس رحالةً أو سائحاً، بل فناناً سياسياً عابراً للحدود؛ فعلى مدار ما يقرب من 60 عاماً أمضاها في العمل السينمائي، انشغل الرجل بتفكيك النماذج السياسية والكولونيالية المعاصرة، وتتبع أشكال الاضطهاد السياسي المعاصر، وتجلياته في المجتمعات المتناحرة والأنظمة المتصدعة، فالصراع السياسي وكيف تترجمه السلطة على الأرض هو ثيمة حاضرة في سينما غافراس.
لم ترسم الحدود الجغرافية حواجز فكرية في سينماه، فيمكن أن نلحظ عبر أفلامه التي تجاوزت عشرين فيلماً قدرته على فهم جوهر الصراع السياسي، سواء بين الأحزاب السياسية والسلطة، أو بين الفرد والسلطة، أو بين سلطة احتلال وشعب؛ فهو الذي اختار أن يعنون سيرته الذاتية بـ"اذهب حيث يستحيل الذهاب"، لم يخرج سوى فيلمين عن بلاده اليونان التي غادرها في التاسعة عشرة من عمره، بسبب ملاحقة النظام الملكي لوالده المناهض للسلطة، فيما امتدت بقية أفلامه عبر خرائط العالم المضطرب: من تشيلي إلى فلسطين، وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا (سابقاً) واليمن وألمانيا النازية، إضافة إلى فرنسا والولايات المتحدة. في أعماله، تختلط الجغرافيا بالسياسة والهوية، وكذلك فإن هوية الفيلم ذاته متداخلة، فعمله الشهير "زِد" (Z) مثلاً، يحكي قصة يونانية، وهو من إنتاج جزائري، وناطق بالفرنسية.
الفضول السينمائي قاد المخرج الذي التقته دمشق، أخيراً، عبر تطبيق زووم، إلى مناطق تتهددها التصدعات السياسية، حيث تتصارع السلطة مع المعارضة، وتُردى الشعارات بالرصاص، والانقلابات بمحاكمات صورية. وعلى امتداد عقود حياته التسعة، كوّن غافراس نظرة عميقة إلى آليات القمع، وتحولات الأنظمة، وانسحاق الأفراد تحت وطأة الاستبداد.
عبر تظاهرة نظّمها "صالون دمشق السينمائي" ضمن معرض زوايا، عُرضت ثلاثة من أفلامه، قال أحد المشاهدين أثناءها: "هذه السينما تشبهنا". وعند عرض فيلم Missing، الذي يروي قصة أب أميركي يبحث عن ابنه المغيب قسرياً في سجون السلطة التشيلية، وقبيل النقاش المباشر مع غافراس، علق أحد المشاهدين أمام الحضور قائلاً: "هذه سورية. هذا الفيلم يلامس ما عشناه في ظل حكم الأسد، وما نعيشه اليوم بعد سقوطه".
مشهد الجثث العارية المكدّسة في كراج السيارات في الفيلم، أعاد إلى أذهان المشاهدين صور قيصر، المشهد الذي حفر عميقاً في الذاكرة السورية، حيث الموت تحت التعذيب والتغييب القسري لمئات الآلاف. وما حدث لبطل الفيلم، استحضر تجربة أهالي آلاف السوريين الذين غيبوا قسراً في سجون النظام، ولم ترجع جثثهم، بينما تُماطل السلطة في الكشف عن مصائرهم؛ مرة تقول إنهم أحياء، ومرة أخرى تتسرب أخبار أنهم قتلوا، قبل أن يُطلب من والد الفقيد ببساطة، كما في الفيلم، أن "يبحث عن جثة ابنه بين الجثث".
تفاعُل الجمهور السوري مع الفيلم لم يكن فقط من باب التشابه، بل من عمق الجرح الذي لا يزال نازفاً، وربما لهذا السبب بادر أحدهم بسؤال غافراس: "هل أنت مطّلع على الحدث السوري؟ وهل يمكن أن تصنع فيلماً عن سورية؟"، فأجاب المخرج: "إن كنت سأخرج فيلماً عن سورية، فسأختار الحدث الراهن، سقوط النظام وما رافقه من تحوّلات وسبقه من تراجيديا، وسأظل أحدّق في المستقبل، لكن الحقيقة أن تطورات هذا البلد متسارعة جداً، إلى حد يصعب معه الإمساك بلحظة واحدة فقط".
في Missing، يحكي غافراس عن تشيلي ما بعد الانقلاب، وعن ذاك الأميركي الذي جاء باحثاً عن ابنه، ليصطدم بحقيقة قاسية: بلاده متورطة، ومؤسساتها ليست كما تخيّل. القصة بالنسبة إلى غافراس لم تكن فقط عن فرد، بل عن وعي جماعي يُعاد تشكيله، وعن أميركي بسيط يكتشف أن السفير والصحافة والنظام كله يكذب عليه. شخصية الأب، التي أداها جاك ليمون، كانت تمثّل هذه البراءة الأولى.
كان من الصعب إقناع المنتج باختيار ليمون، المعروف بأدواره الكوميدية، كما يقول غافراس، لكنه أصرّ، وبعد جهد قُبل الاختيار، وكان محورياً في نجاح الفيلم. بدأت التظاهرة بفيلم "زِد"، الذي أُنتج عام 1969، وأصبح أيقونة السينما السياسية المعاصرة. يتناول الفيلم، الذي استند إلى رواية بالاسم نفسه، كتبها فاسيليس فاسيليكوس، اغتيال السياسي اليوناني غريغوريس لامبراكيس عام 1963. إلا أن الفيلم لا يُشير مباشرةً إلى اليونان، فهذا ما تفعله السلطات في كل مكان وزمان.
اسم محمد الصديق بن يحيى لا يزال في ذاكرة غافراس، إنساناً وسياسياً استثنائياً؛ فهو الوزير الجزائري الشاب، الذي شغل حينها منصب وزير الإعلام والثقافة (1967 - 1970)، كان واحداً من القلائل الذين آمنوا بموهبة المخرج اليوناني الفرنسي، قبل أن يصبح اسمه مرادفاً للسينما السياسية العالمية. ولهذا يصف غافراس بن يحيى في مذكراته بـ"الرجل صاحب النظرة الحادقة"؛ فقد سمح بن يحيى، ابن الثورة الجزائرية، للمخرج الشاب أن يصور فيلمه الذي لعب بطولته الفرنسي إيف مونتان في شوارع الجزائر. الفيلم الذي رفضت فرنسا ترشيحه باسمها في الأوسكار، خَطَف الجائزة، ودوّى اسمه في العالم كله.
لعلّ "زِد" هو درة الأفلام السياسية في القرن العشرين، وهو الفيلم الذي ذاع صيته حينها في الأوساط اليسارية في العالم، وجعل من مخرجه أحد طليعة المخرجين السياسيين، وصبغ على سينماه ما صار يعرف لاحقاً باسم "السينما السياسية". وعن هذا، يعلق غافراس: "السينما، كغيرها من الفنون، تمتلك قدرة استثنائية على ملامسة أحاسيس الناس ودواخلهم، ولهذا السبب هي فن سياسي بامتياز، ليس لأنها ترفع شعارات أو تصوغ بيانات كما يفعل السياسيون، بل لأنها تنفذ إلى أعمق ما في الإنسان وتثير فيه التساؤل والشك والتأمل".
هذه الرؤية لا تنطبق على السينما وحدها، بل تشمل الموسيقى والفنون كلها، التي يرى أنها ليست للترفيه فقط، بل يجب أن تحمل معاني أبعد، وتجعل من المتلقي شريكاً في السؤال، وليس مجرد مستهلِك.
وصحيح أن السياسة هي موضوعة حاضرة ومهيمنة على سينما غافراس، إلا أنها تتدخل أيضاً في خلفيات صناعة الفيلم. وفي معرض حديثه عن السينما والسياسة، يذكر غافراس فيلمه "حنا ك"، الذي لعب فيه الممثل الفلسطيني محمد بكري أول دور له في السينما الغربية. يتحدث المخرج عن الفيلم مشيراً إلى أنه شكّل تحدياً كبيراً منذ بداية العمل عليه، إذ لم يوافق المنتجون بداية على تمويله لأنه يتناول القضية الفلسطينية، لكن بعد زيارة غافراس إلى الأراضي المحتلة، ولقائه بفلسطينيين انتُزعت بيوتهم منهم واستولى عليها المستوطنون، تغيّر كل شيء.
هناك، على الأراضي المحتلّة، أصر غافراس على الفيلم، لا سيما أنه استمع إلى من يتحدثون عن المقاومة بوصفها مشروعاً شرعياً لشعب جُرّد من بيته وأرضه، وقرّر أن هذا الصوت لا يمكن تجاهله.
هكذا وُلد الفيلم، وتبنّته لاحقاً شركة يونيفرسال بيكتشرز، لكن ما إن حان وقت عرضه، حتى رفضت الصالات الأميركية استقباله، وكان الجواب الرسمي أن "العلاقات الأميركية الإسرائيلية ممتازة، ولا نرغب في إفسادها".
وبعد ثلاث سنوات من إنتاج الفيلم، كانت ديناميكية العلاقة بين الفلسطينيين والاحتلال قد دخلت مرحلة جديدة، مع اغتيال إسحق رابين وتصاعد الأحداث في قطاع غزة، فيما بدا أنه استمرار لتلك الصيرورة التي تناولها الفيلم.
في حديثه عن السينما اليوم، لا يخفي غافراس قلقه من هيمنة الشركات الأميركية الكبرى التي تحتكر صالات العرض وتفرض نوعاً واحداً من السينما. ومع ذلك، يرى أن السينما لا تزال قادرة على التجدد، وأن دخول النساء إلى الصناعة، مُخرجاتٍ وعاملات، غيّر طبيعة الحكايات المطروحة، وجعل المجتمع حاضراً فيها أكثر من قبل. لكنه يذكّر دائماً بأن صالة العرض تبقى الشرط الصحي لمشاهدة الفيلم كما ينبغي، وسط جمهور حي، وليس أمام شاشة معزولة.
وعبّر غافراس عن ألمه لما يشهده قطاع غزة. قال إن "نشرات الأخبار كثيراً ما تُشوّه الحقيقة، وإن الحل في يد السينمائيين هو أن يصنعوا المزيد من الأفلام الوثائقية التي تضيء على ما لا تقوله الأخبار".
وتحدّث بإعجاب عن أفلام صُوّرت في غزة عبر الموبايل، وعن فاطمة حسونة، المصورة الفلسطينية التي دُعيت إلى مهرجان كان السينمائي لكنها استشهدت بقصف إسرائيلي قبل أن تتمكن من الوصول.

Related News
