
سمير الصايغ هو في تجربته الشعرية ذو فضاءٍ صوفي، لكنه، بالإضافة إلى ذلك، وربما بالتوازي معه، ناقدٌ تشكيلي، واستطراداً، هو أيضاً فنانٌ له حروفيته الخاصة التي تحتفي، على هواه، بالخط العربي. اليوم، لسمير الصايغ، وعطفاً على التجربة الحروفية، معرضٌ في غاليري صالح بركات في بيروت بعنوان "الطريق".
في هذا المعرض الذي يتواصل حتى الخامس من يوليو/ تموز المُقبل، يجتهد سمير الصايغ ليردَّ فنه إلى حروفيةٍ ما. سنجد لوحاتٍ تستعيد حروفاً، كالألف والميم والنون، على سبيل المثال، وكلماتٍ تسترد، من بعيد، اسم الله، وألفاظاً أخرى يجمعها أحياناً موضوعٌ واحد، كالمذكر والمؤنث، أو معنى جامع كألفاظ الحب.
نحن هنا لا نزال في الحروفية، لكن هذه إرادة الفنان وإيعازه الصريح. لا نتعرف بسهولة، في هذه الخطوط العمودية والمتفاوتة الطول، على اسم الله، وتُسعفنا في ذلك البطاقة التي تحمل الاسم إلى جانب اللوحة. لن نتعرف فوراً على الميم والنون والألف، إلا بالرجوع إلى بطاقة مماثلة، وبالطبع لن نتعرف على الحب إلا في ألفاظه التي تُسعفنا البطاقة في استجلائها، وإن كان ذلك ممكناً بدونها.
لكن الواضح أن الشكل الهندسي الذي يقابل حرف الميم، أو ذاك الذي يوعز بالألف، أو الآخر الذي يفضي إلى النون، هي أشكالٌ يتم اختراعها في عملية تحويلٍ ومعادلةٍ للأصل، وهي عملية نلاحظ اتساقها، وإن يكن ذلك بفضل التركيب والخيال. ليست هذه التجربة حديثة بالكامل، فلها وجودها في التراث؛ ليس الخط الكوفي بعيداً عنها، بل إنها فائضة عنه بقدر ما هي أصيلة، أو تكون جدّتها في هذه الأصالة، التي غدا الحرف بها فنّاً قائماً بذاته.
لم يركن الصايغ إلى إعلانات الهوية التي أضفت على الحروفية خلاصاتٍ قومية أو دينية. كان الحرف، منذ البداية، مستقلاً، عن اللغة أيضاً، وإن يكن من داخلها. إنه لغةٌ في اللغة، وفنٌّ سابقٌ وأصيلٌ فيها. ما يسعى إليه الصايغ هو هذه المزاوجة بين الأصالة والحداثة. حين نقرأ "نون" أو "ميم" أو "ألف" إلى جانب اللوحة، التي هي بناءٌ آخر للحرف، ووجودٌ له هندسته وشكله، ننتبه فوراً إلى أن الميم مرسومة، مثلها كمثل النون والألف، أكثر من كونها مجرد حروف، بل هي حجمٌ وإيقاعٌ ومعمارٌ وامتلاء.
هكذا يشطح الصايغ في الاتجاهين: الميم هنا مثالُ الميم، إنها ذروتها، وكذلك النون والألف وبقية الحروف. إنه يسعى في آنٍ معاً، إلى استعادة الحرف، ولكن هذه، في الوقت ذاته، احتفالٌ به، إعادةُ تأسيسٍ ونقلٌ إلى ذلك المستوى القائم بذاته، المستقل بنفسه، المكتمل في بنيانه، والذي يسميه الفنان، من ناحية أخرى، فنّاً.
خلقٌ ليس له مقاسٌ أو معيارٌ أو نموذجٌ أو ترسيمةٌ مسبقة
إنه فنٌّ بالدرجة الأولى، فنٌّ بكل ما في لعبته من مقوماتٍ وعناصر: الفضاء، والمعمار، والخيال، والنبض، والاستعارة. لا نحتاج، والحال هذه، إلى أن نبحث عن معادلٍ فكري أو فلسفي أو سياسي. الفن هنا في منتهاه، في تمامه، وحين نقول ذلك لا نحتاج إلى أي إضافة أخرى. الفن بما هو خلقٌ وابتكار، خلقٌ ليس له مقاسٌ أو معيارٌ أو نموذجٌ أو ترسيمةٌ مسبقة، أو طريقةٌ سالفة، أو سابقٌ من أي نوع.
إنها حروف، وأحياناً كلمات: الألف منصوبٌ وسط الفضاء الذي يتولد من حركته، يتولد بإزائه؛ للنون هذه النواة الخالدة، هذا المركز الداخلي، هذا العمق الموصول؛ وللميم تلك القاعدة الكوكبية. وبالطبع، حين يبني الصايغ من ألفاظ الحب، فإن الجوى والوجد والحنين ليست هنا بمعانيها المباشرة، بل إنها، بعيداً عن هذه المعاني، تخرق الفضاء الذي يقابلها من مسافة. يبقى لنا أن نحدق من ورائها ومن خلالها.
هكذا لا يقول الصايغ الكلمات، بل يخترع منها. يخترع من داخلها، وبعيداً عنها، سماءً تضمّها، سماءً تخصّها، سماءً هي وجهها الآخر، هي وجهها العريق، في حين أنه ابن اللحظة، بل هو اللحظة ذاتها. وما ينبني هو، في آنٍ معاً، معانيها الهاربة، معانيها البعيدة، التي ليست معانيَ إلا بهذا المعيار، ليست معانيَ إلا بالموسيقى التي تتردّد، في آنٍ معاً، من داخلها، ومن فضائها، ومن صوتها، وإيقاعها، وما وراءها، وما بعدها، وما هو أيضاً حينها ونبرها.
* روائي وشاعر من لبنان
