
"لا مستقبل لمواطن بلا وطن حُرّ"، هكذا كُتب على شاهدة ضريح المخرج السوري باسل شحادة (1984 - 2012)، الذي قُتل على يد عناصر أمنيين تابعين لنظام الأسد البائد، ولم يحظَ بقبرٍ في دمشق إلّا أخيراً، بعد طول منع وتضييق فُرضا على أُسرته. صورة الضريح والعبارة المحفورة عليه جرى تداولهما سريعاً في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تزامنت مع معرض "معتقلون ومغيَّبون" الذي نظّمته مجموعة "ذاكرة إبداعية للثورة السورية" في المتحف الوطني بدمشق.
كذلك، أَضفى توقيع العبارة من قبل الخَطّاط البارز منير الشعراني (1952)، المعروف بمواقفه المعارضة للنظام السابق، قيمةً رمزيةً عاليةً عليها؛ ما يؤكّد، من خلال سيرة ونتاج جيلَين من الفنّانين السوريّين، ضرورةَ المواطنة والحرّية، وأن لا بديل آخَر أمامنا عنهما، قبل سقوط النظام وبعده، قبل التحاق كثيرين وتزلُّفهم البائس إلى السلطة الجديدة وبعدهما.
الفنّ الذي قاوم ونشَد الحرية يُحصّننا من احتمالية تكرار الاستبداد
تفتح الخطَاطة الشعرانية البابَ للوقوف على حيوية مشهد الفنّ السوري الراهن، وهنا لا بدّ أن نبدأ بالشعراني نفسه الذي صدر عنه حديثاً كتابٌ يُوثّق تلازم نشاطه السياسي والإبداعي بعنوان "منير الشعراني، عكس التيار.. استكشاف آفاق الخط العربي" للباحثَتين هدى سميتسهوزن أبي فارس ونجلاء سمير، تناولتا فيه أبرز محطات رحلة المنفى التي عاشها الخطّاط والمُصمّم الغرافيكي السوري منذ الثمانينيات وحتى عودته إلى دمشق عام 2004، وحضوره بقوّة في الحياة السياسية والثقافية بعد الثورة، المَبنيّ على فهمٍ حداثي مُتحرّر لدَور الحرف العربي، أو كما تكتب أبي فارس وسمير: "المقاومة من خلال الحروف وتصميم الخطّ".
كذلك، نالت، أخيراً، الفنّانة عزة أبو ربعية (1980) "جائزة فاتسلاف هافل للمقاومة الإبداعية"، التي مُنحت لها هذا العام في أوسلو. ابنة مدينة حماة، التي خاضت تجربة الاعتقال عام 2015، حُشِرت في زنزانة ضيّقة بأحد الأفرُع الأمنيّة إلى جانب خمس عشرة معتقلة أُخرى، وحين خرجت، مثّلت في أعمالها الحضور المُقاوم للمرأة السورية في الحيّز العام كما في الفنّ.
من أبرز اشتغالات أبو ربعية التي يُمكن أن نُعاينَها، لوحة "جنازة الفراشة" (2022)، متاحةٌ في معرض بيروتي مقام حالياً بعنوان "المرأة في طور العمل"، وفيها تختبر أبو ربعية تحوّلات الجسد من خلال ثيمة الشرنقة والفراشة، عبورٌ من ظلمات الزنازين إلى نور الحرية المنشود.
فنانٌ سوري آخر يُمكن الوقوف عند تجربته الإبداعية، هو النحّات المُقيم في فرنسا خالد ضوّا (1985)، الذي يُساهم بتجهيزٍ عنوانُه "هُنا قلبي" ضمن معرض مقام حالياً في متحف "Beelden ann Zee" بمدينة لاهاي الهولندية، بمناسبة ثمانين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية. تقوم فكرة العمل، الذي تبلغ مساحته ستة أمتار وسبق أن عُرض ثلاث مرّات في فرنسا، على تمثيل جزء من مدينة سورية حقيقية هُجّر أهلُها، كما حدث مع أهالي الغوطة عام 2018 على يد قوات النظام السابق والميليشيات الحليفة له.
ارتبط اسم ضوّا بعمل آخر "ملك الثقوب"، التمثال العملاق الهَشّ الذي حطّمه، بصُحبة نساء من ذوات المعتقلين السوريين، أمام مقرّ الأمم المتحدة في جنيف في الثلاثين من أغسطس/ آب 2024، بمناسبة "اليوم العالمي للمخفيّين قسراً"، تنديداً بعشرات الآلاف من حالات الاختفاء القسري في سورية. تُلخّص كلمات الناقد نبراس شحيّد تجربة ضوّا والتزامه بقضية الحرية من الاستبداد الأسدي منذ 2011، يكتب شحيّد: "يتكلّم عقلُ الفنان منادياً بالثورة، لكنّ الجسد الذي يظهر في أعماله يبقى جامداً... يبقى هذا الجسد عصيّاً على الاختراق: هو الحافة الأخيرة للغة أو بالأحرى هاويتها وانهيارها".
بيروت ورُوان (شمال فرنسا) وبرلين، ثلاث مدن أُخرى شهدت وتشهد حاليّاً مَعارض لثلاثة فنانين سوريّين: "وطن متخيّل" لكيفورك مراد (1970)، و"أصداء" لريم يسوف (1979) بالاشتراك مع الفرنسية إلزا ديو، و"ما بعد العاصفة" لتمّام عزّام (1980)، حضرت فيها الثيمات السورية التي تبلورت خلال سنوات الثورة، وعبّرت عن موقف أصحابها التوّاقين إلى الحرية والمواطنة، والمُعارِضين للطاغية الفارّ. قيمٌ تُكثّفها عبارة منير الشعراني التي انطلقنا منها: "لا مستقبل لمواطن بلا وطن حرّ"، والتي لا تمكن قراءتها مجرّدَ ردّ فعل على استبداد بائد فقط، بل موقفاً أعمق ومستمرّاً، ينطوي على حساسية عالية تجاه أي سلطة تُهدِّد كرامة الإنسان، أيّاً كانت هويتها.

Related News
