الأفريقي الشجاع واثينغو... وداعاً
Arab
3 hours ago
share

وقف نغوجي واثيونغو طفلاً ذات يوم في طابور الصباح في فناء مدرسته الداخلية التنصيرية إليناس، والتي اعتاد يومياً الوقوف في فنائها. وفي يوم، وقع نظره على معلمين إنجليزيين يتناوبان على ضرب طالبٍ كينيٍّ ضربأً مبرّحأً سال دمه من أنفه ويديه من شدّة الضرب، فكانت الصدمة حينما عرف نغوجي أن ذلك الطفل المضروب لم يكن ذنبه الوحيد سوى أنه تحدّث بلغته الأصلية الكوكيو في طابور المدرسة الصباحي.

وبعد تلك الحادثة التي ارتسمت في مخيلة الطفل، المولود باسم جمس واثيونغو عام 1938، بقرية ليمورو في أثناء فترة الاحتلال البريطاني كينيا، وقعت حادثةً أخرى ساهمت في تشكيل شخصية واثيونغو، مقتل شقيقه الأصم جيتوجو على يد جنود بريطانيين في أثناء انتفاضة حركة الماو ماو الكينية المناهضة للاستعمار البريطاني، ما راكم وعياً كبيراً لدى واثيونغو، وشعوراً معادياً ورافضاً كل ما له علاقة بالاستعمار ومخلفاته.

قلبت تلك الأحداث والمواقف حياة واثيونغو رأساً على عقب، وأعادت رسم مسار حياة الرجل بعيداً عن عيون الرقيب الكولونيالي الذي سعى، بكل ما أوتي من قوة، إلى إعادة صياغة الإنسان الأفريقي وعقله وقلبه ووجدانه، وفقاً للرؤية الاستعمارية الغربية الاستلابية. وهكذا تشكّل وجدان واثيونغو وهويته، وخطّ مساره في الحياة، مناضلاً صلباً بقلمه ووجدانه في سبيل معركة الحرية والكرامة والهوية الإفريقية.

الاستعمار لم يرحل، وإنما ظل جاثماً بفكره ولغته وثقافته حتى بعد رحيله المتوهم

وبرغم من حصول واثيونغو على بكالوريوس الأدب الإنجليزي من جامعة ماكيريري بأوغندا، ومواصلته الدراسة العليا في جامعة ليدز البريطانية، التي تخرّج منها في 1964، ونشره أولى رواياته في ذلك العام "لا تبكي أيها الطفل"، بمساعدة صديقه النيجيري تشينوا اتشييس، وتحكي قصة طفل كيني في أثناء ثورة الماو ماو، لتكون أول رواية تنشر بالانجليزية لأديب شرق أفريقي.

واصل واثيونغو نشر رواياته بالإنجليزية كـ"النهر الفاصل" (1965) التي تحكي قصة الصراع بين التقاليد والتغيير في مجتمع الكيكيو، و"حبة القمح (1967) التي تحكي قصة الكفاح الكيني من أجل الاستقلال، متأثراً في هذه الرواية بالماركسية الفانونية (نسبة إلى فرانز فانون). وبعد توقف طويل أصدر واثيونغو روايته الشهيرة "بتلات الدم" (1977)، ويحكي فيها قصة فساد ما بعد الاستعمار، وهي آخر رواية له مكتوبة بالإنجليزية، متزامنة مع مسرحية "سأرقص كما أريد"، والتي انتقد فيها الفساد، واقتيد بعدها إلى السجن بأمر من الرئيس الكيني دانيال أرب موي. ثم خرج من السجن بروايته الأشهر "شيطان على الصليب" التي يُقال إنه كتبها على أوراق التواليت، وهي أول رواية له بعد تركه الكتابة بالإنجليزية وتدشين الكتابة بلغته الأم الكيكيو، فضلاً عن تغيير اسمه الكنسي جيمس إلى إسمه الكيوكيوي نغوجي، والذي يعني المتمسّك بالحق. وفي هذه الرواية، ينتقد واثيونغو الاستعمار الجديد، الاستعمار الذي خلفه المستعمر من بعده، وهي لغته وثقافته والنخبة الحاكمة التي سلم له المستعمر مقاليد الأمور، ورحل معتمداً عليها استمراراً له ولسياساته.

استمر واثيونغو في إصداراته التي سبّبت له الكثير من الأذى، كيومياته في السجن "معتقل" 1981، ورواية "متيغاري" 1987، و"ساحر الغراب" 2006، وكذلك "الثورة العمودية لماذا يمشي الإنسان منتصباً" 2016، وهي قصة قصيرة ترجمت إلى أكثر من مائة لغة، لكن كتابه الأكثر شهرة وقدرة على رسم ملامح مشروعه الفكري هو "إزالة استعمار العقل" 1986، وهو مجموعة من الكتابات الثورية الناقدة والقوية، يتحدث فيها واثيونغو بكل وضوح عن أهمية تحرير الإنسان الأفريقي المستلب، وأن تحريره يبدأ من تحرير الاستلاب العقلي من خلال اللغة والمدرسة، والتي يراها نغوغي أكثر خطراً من الرصاصة.

عمل واثيونغو في أعرق أكاديميات الغرب. لكنه ظل دائمأً صوت أفريقيا وحارس هويتها ووجدانها الأمين.

لم يقف واثيونغو هنا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، متسائلاً "ما الفرق بين السياسي الذي يقول: إن إفريقيا لا تستغني عن الإمبريالية، والكاتب الذي يقول: إن إفريقيا لا تستغني عن اللغات الأوروبية؟". وبفعل هذا الكتاب، دخل واثيونغو في خلاف شديد مع صديقه النيجيري أتشيبي الذي يكتب بالإنجليزية، ومع غيره من الكتاب الأفارقة الذين يكتبون بغير لغاتهم الأصلية.

لم يكتف نغوجي بذلك، بل ذهب إلى ما هو أبعد في "إزالة استعمار العقل"، رافعاً سقف مطالبه وتحذيراته، إذ يبرز بوضوح ملامح مشروعه الفكري المناهض لكل ما له علاقة بمخلفات عهد الاستعمار. ويقول إن الاستعمار لم يرحل، وإنما ظل جاثماً بفكره ولغته وثقافته حتى بعد رحيله المتوهم؛ فهو لا يطالب فقط بالعدالة السياسية والاقتصادية، بل بتصفية الاستعمار من داخل الوعي الجمعي، بدءاً باللغة؛ لغة الثقافة، إذ يرى "أن أكثر أدوات الاستعمار فتكاً لم تكن الأسلحة، بل المدرسة".

لم يكن هذا الصوت الأفريقي وحده من ينادي بما نادى به، فقد كان مواطنه الكيني علي مزروعي أيضاً على المسار نفسه، وإن كان واثيونغو الأكثر جرأة على قوله، وهو المنفي في الغرب بعد فصله من جامعة نيروبي وطرده من وطنه، فقد عمل في أعرق أكاديميات الغرب، من جامعة ييل الأميركية إلى جامعتي كاليفورنيا الأميركية وليدز البريطانية وجامعاتٍ أخرى. لكنه ظل دائمأً صوت أفريقيا وحارس هويتها ووجدانها الأمين.

عانى واثيونغو كثيراً ليس في السجون والمنافي فقط، بل واجه السرطان وتغلب عليه، وهو الذي قيل له في 1995، إنه لن يعمر أكثر من ثلاثة أشهر، بعد أن تبيّن تعرّضه سرطان البروستاتا، لكن عاش بعد ذلك طويلاً حتى توفي أخيراً عن 87 عاماً، وقد قارع كل أشكال الاستلاب الفكري والثقافي والسياسي في الداخل والخارج الأفريقي، صوتاً أفريقياً قوياً لا يكلّ ولا يملّ ولا يستسلم.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows