
مع حلول عيد الأضحى تضاعفت مشاعر آلاف النازحين الفلسطينيين في مصر، وتحوّل العيد من مناسبة للفرح إلى لحظة مواجهة مع كل ما فُقد. في شقة صغيرة تعيش فيها ثلاث عائلات فلسطينية قرب محطة مترو العباسية، استيقظت أم يوسف صباح عيد الأضحى على صوت ابنها الصغير يسألها: "ماما، هل سنزور جدتي اليوم؟". صمتت لحظات، ثم أجابته باحتضانه لمحاولة إخفاء دموعها التي سبقت الكلمات، فالجدة، مثل معظم أفراد العائلة، لا تزال في غزة تحت القصف، بلا كهرباء وبلا أمان.
منذ أن فرّت من غزة أواخر العام الماضي بعدما دمرّ القصف منزلها في خان يونس، لم تعرف أم يوسف طعم أي عيد. وقالت لـ"العربي الجديد": "هنا نحن أحياء بالجسد وقلوبنا هناك. العيد في غزة كان ضيقاً بالحصار، لكنه كان دافئاً بالعائلة، أما هنا فكل شيء بارد، حتى العيد".
يعيش آلاف الفلسطينيين النازحين من قطاع غزة إلى مصر أوضاعاً صعبة تتراوح بين الإقامة غير المستقرة وانعدام الدخل الكافي، والقلق الدائم على من بقي في القطاع. وقال خالد (27 عاماً) الذي نزح إلى مصر في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لـ"العربي الجديد": "نجونا من الموت، لكن ليس من القلق. ننتظر كل ساعة خبراً من غزة. نتابع من مات ومن فُقد ومن تحت الأنقاض، ونخجل أن نقول كل عام وأنتم بخير".
تابع خالد الذي يمكث مع شقيقه في شقة صغيرة بمنطقة الحرفيين، ويعمل ليلاً في مطبعة بأجر يومي بالكاد يكفي الطعام والإيجار: "لا نملك أوراق إقامة رسمية، ولا نستطيع تسجيل أولادنا في المدارس، ولا نعرف حتى إلى متى سنبقى هنا حيث نعيش على هامش البلاد، ونكتم الحزن حتى لا نتكسر أكثر".
ورغم أن مصر فتحت أبوابها لآلاف النازحين الفلسطينيين يبقى الواقع المعيشي صعباً جداً لغالبيتهم، فمع ارتفاع الأسعار وانخفاض فرص العمل يعانون محدودية الدعم، لا سيما أولئك غير المسجلين في سجلات رسمية. وشكت هالة، وهي أرملة نازحة من دير البلح، من استنزاف مدخراتها القليلة خلال شهور النزوح الأولى، وقالت لـ"العربي الجديد": "كنا نأمل في أن تعيننا بعض الجمعيات أو المؤسسات، لكن المساعدات متقطعة، والعيد أتى ولم نملك ثمن أضحية أو حتى ملابس جديدة للأولاد".
ويختلط شعور الغربة بعقدة الذنب لدى كثيرين استطاعوا الخروج من غزة وتركوا أحبّاءهم خلفهم. وقالت إيمان، وهي شابة في العشرين لـ"العربي الجديد": "أشعر بالخيانة أحياناً. رفضت أمي الخروج معي وبقيت مع جدتي المريضة. في كل قصف، أعيش رعب الفقد. في العيد، كانت أمي تجهز الكعك وتنتظرني، والآن أنتظر أنا صوتها على الهاتف ولا يأتيني".
لا صلاة عيد جماعية، ولا زيارات عائلية، ولا لحوم تُقسّم على الجيران. يحاول النازحون الفلسطينيون في مصر إعادة رسم طقوس العيد، لكنها تبقى مشوّهة بالوجع. يشتري البعض حلوى بسيطة للأطفال، يصنع آخرون الفطور من زيت الزيتون والزيتون، ويتذكرون بمرارة موائد الأم في غزة، وحكايا الجدة، وصوت المؤذن من جامع الحي المحاصر اليوم بالدخان. ورغم ذلك كله، قالت أم يوسف: "لم نفقد الأمل فنحن تربينا على أن النكبة ليست نهاية، وأن العودة قادمة. نعلّم أولادنا أن غزة باقية، وأن العيد حين نعود سيكون أوسع، وأصدق، وأجمل".
ويحلّ عيد الأضحى هذا العام على آلاف الفلسطينيين المقيمين مؤقتاً في مصر، وسط مشاعر مختلطة من الحزن والغربة والقلق، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وهم يتوزعون بين القاهرة والعريش، كما يتعالج مئات من الجرحى في المستشفيات المصرية. ورغم محاولات بعضهم التأقلم مع الواقع الجديد، لم تفارقهم مشاعر الغربة والقلق خصوصاً في المناسبات التي كانت تجمعهم مع أسرهم في غزة.
وقال محمد نون، أحد النازحين المقيمين في القاهرة، لـ"العربي الجديد": "لا يشبه العيد في الغربة شيئاً مما كنا نعيشه في غزة حيث كانت الأجواء ذات طابع خاص، مليئة بالبهجة والتقاليد التي يعرفها كل من زار القطاع. أما هنا فنعيش في ظروف أفضل نسبياً من أهلنا في غزة، لكن الشعور بالذنب لا يغادرنا، لأن عائلاتنا هناك تعيش تحت الحصار والقصف ولا تجد قوت يومها".
تابع: "رغم الأمان النسبي في مصر يتضاعف الألم مع كل مكالمة فيديو تجمعنا مع أسرتنا صباح يوم العيد. نتبادل التهاني ونحاول أن نبتسم، لكن خلف الشاشة هناك قصف وجوع وخوف".
وفي أحد مستشفيات القاهرة، يرقد الجريح يسري أحمد الذي نُقل من غزة بعدما أصيب بشظايا في بطنه وقدميه. وقال لـ"العربي الجديد": "أجريت عدة عمليات حتى الآن، وحالتي لا تزال حرجة لكنني أتمسك بالحياة. العيد هنا مختلف، نحاول أن نخلق بعض الأجواء مع من حولنا من الجرحى ومرافقيهم، لكن قلوبنا معلّقة بأهلنا الذين تركناهم تحت النار في غزة. اكتفيت هذا العام كما في العام السابق بمكالمة عبر الإنترنت مع أسرتي في منطقة المواصي جنوب القطاع، لمعايشتهم فرحة العيد ولو عبر شاشة". وقال جريح آخر: "نتوقع أن يطول النزوح، ومع غياب مصدر دخل وارتفاع تكاليف المعيشة أصبحنا عاجزين عن دفع إيجار البيوت أو حتى تأمين احتياجاتنا الأساسية".
في المقابل، تقدم جمعيات أهلية مصرية ومنظمو مبادرات فلسطينية مستقلة مساعدات مادية وعينية، مثل الطرود الغذائية، لمحاولة تخفيف حجم الأزمة، لكن الحاجة تبقى أكبر من المتاح، خصوصاً مع استمرار إغلاق المعبر وغياب أي أفق سياسي واضح لنهاية الحرب.
ويحاول الفلسطينيون معايشة أجواء العيد برفقة العائلات المصرية التي يعيشون إلى جوارها في المناطق السكنية داخل المحافظات المختلفة التي توزّعوا فيها، من أجل تخفيف حدة الغربة والوحدة. ويقول عدد من النازحين إن هذا التضامن الشعبي يُخفف عنهم شيئاً من ألم البُعد عن أحبائهم، ويمنحهم شعوراً مؤقتاً بالانتماء والدفء.
يأتي ذلك بينما تستمر الأزمة الإنسانية الناتجة عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وسط تعذر لمّ شمل هذه العائلات مع من تبقى من أفراد أسرها داخل القطاع. ورغم الظروف الصعبة، يعلّق كثير من الفلسطينيين آمالهم على وقف الحرب وفتح معبر رفح للعودة إلى ديارهم، فبالنسبة لهم، "العيد الحقيقي لن يكون إلا في غزة، بين الأهل، وتحت سماء لا تمطر ناراً".

Related News

