
وصف دبلوماسيون مصريون مشاركة مصر في اجتماعات وزراء خارجية دول مجموعة "بريكس" في البرازيل، والتي عُقدت في ريو دي جانيرو، يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، عبر ممثل رئيس الجمهورية السفير راجي الإتربي، بأنها محطة جديدة في مسار انخراط مصر داخل هذا التكتل الدولي الآخذ في الصعود، بما يحمله من رهانات استراتيجية، سواء في كسر الأحادية الأميركية التي تهيمن على النظام الدولي، أو في فتح نوافذ اقتصادية جديدة بعيداً عن الشروط الغربية.
الانضمام إلى "بريكس"... معادلة دقيقة
ولكن في الوقت ذاته أكد هؤلاء أن هذا المسار لا يخلو من تعقيدات، ويخلق تحديات حول جدوى التحالفات البديلة، وحدود تأثيرها الفعلي، خصوصاً في قضايا مصيرية كالحقوق الفلسطينية أو التوازنات الإقليمية. إذ تبقى مصر أمام معادلة دقيقة: كيف يمكن أن تستفيد من "بريكس" لتقوية موقفها في ملفات حيوية مثل غزة وسد النهضة، دون أن تدفع ثمناً استراتيجياً في علاقاتها مع واشنطن وبروكسل، وكيف تحوّل منصات التأييد السياسي إلى أدوات ضغط فعلي على الأرض، وكيف تحافظ على موقعها طرفاً مناوراً بين القوى الكبرى، دون أن تبدو كمن يبحث عن بديل اضطراري لا عن شراكة متكافئة؟ وشدّد الدبلوماسيون المصريون على أن ذلك يتطلب من القاهرة سياسة خارجية مرنة وعميقة، لا تقوم على المواقف الظرفية، بل على إعادة تعريف لمصالحها العليا ومصادر قوتها، في نظام دولي لم يعد يحتمل الوقوف على الحياد.
تُطرح أسئلة حول قدرة مصر على الاستفادة من "بريكس" دون أن تدفع ثمناً استراتيجياً بعلاقاتها مع واشنطن
واعتبر مراقبون أن تجمع "بريكس" (أنشئ عام 2006 وضمّ بداية الصين وروسيا والهند والبرازيل ثم جنوب أفريقيا قبل أن يتوسع) يمثل منصة مهمة لمصر في سبيل دعم مواقفها الإقليمية، لا سيما في الملف الفلسطيني. وتأتي أهمية ذلك من انحياز معظم دول التجمع، مثل الصين وروسيا وجنوب أفريقيا، لمواقف أقرب إلى دعم الحقوق الفلسطينية ورفض السياسات الإسرائيلية العدوانية، فضلاً عن الانتقادات الصريحة التي توجهها هذه الدول للازدواجية الغربية في التعاطي مع النزاعات الدولية. فقد بدا واضحاً خلال اجتماع ريو دي جانيرو، وجود ترحيب بدور مصر في التهدئة بغزة، وقيادتها الجهود العربية والإسلامية لإعادة الإعمار. ويمكن للقاهرة أن توظف هذا التأييد السياسي في المحافل الدولية لتعزيز الضغط من أجل وقف العدوان، وتحقيق هدنة دائمة، مع ضمانات دولية لإيصال المساعدات ورفض التهجير القسري.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تنظر مصر إلى مجموعة "بريكس" باعتبارها رافعة مهمة في مواجهة التحديات المالية العالمية، لا سيما مع اتساع الفجوة في التمويل التنموي، واشتراطات المؤسسات الغربية التي تقيّد السياسات الاقتصادية للدول النامية.
وقد سعت مصر إلى تنويع مصادر الدعم والتمويل، وهو ما يجعل بنك التنمية التابع لـ"بريكس" (NDB) أداة مهمة في المرحلة المقبلة، خصوصاً مع إعلان البنك نيته توسيع تمويلاته خارج الدول المؤسسة. وتترقب القاهرة فرصاً للاستفادة من قروض بشروط ميسرة، ومشاريع بنية تحتية أو طاقة، بعيداً عن الضغط النيوليبرالي الغربي المعتاد من صندوق النقد والبنك الدوليين.
تحولات عميقة
واعتبر السفير عبد الله الأشعل، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، أن مجموعة "بريكس" رغم طابعها الاقتصادي في الأساس، تسعى أيضاً إلى تحقيق أهداف سياسية تتعلق بإعادة تشكيل النظام الدولي. وقال في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن العالم يشهد حالياً تحولات عميقة قد تؤدي إلى تراجع أدوار قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، في مقابل صعود متوقع لدور الصين، الذي لم يبدأ فعلياً بعد، لكنه يلوح في الأفق. وأشار الأشعل إلى أن الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، مطالبة بإعادة النظر في تموضعها الاستراتيجي، مؤكداً أن التعاون مع الصين يجب أن يكون قائماً على إدراك المصالح المتبادلة، وليس انتظار مواقف مبدئية من القوى الكبرى. وقال: "الصين ترى مصالحها، والعرب يجب أن يسعوا بوعي إلى رؤية مصالحهم أيضاً".
من جهته، رأى نائب رئيس المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية، مختار الغباشي، أن تكتل "بريكس" يكتسب أهمية متزايدة نظراً إلى الوزن السكّاني والاقتصادي الذي تمثله دوله، وعلى رأسها الصين والهند، مشيراً إلى أن "التجمع بات يضم نحو نصف سكان العالم تقريباً، ويمثل كتلة اقتصادية ضخمة ذات تأثير متنامٍ على المستويين الإقليمي والدولي".
مختار الغباشي: البعد السياسي لبريكس لا يقل أهمية عن البعد الاقتصادي
وأوضح الغباشي في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن الطموحات التي يعبّر عنها تكتل "بريكس"، كإطلاق عملة موحدة، أو تفعيل التبادل التجاري بالعملات الوطنية، والتحرر من هيمنة الدولار، تكشف عن أفق سياسي متقدم للتجمع رغم طبيعته الاقتصادية الأصلية. وفي رأيه، فإن "البعد السياسي لـ(بريكس) لا يقل أهمية عن البعد الاقتصادي".
وحول موقف دول "بريكس" من القضية الفلسطينية، أكد الغباشي أن مواقف دول مثل الصين وروسيا وجنوب أفريقيا تؤيد الحقوق الفلسطينية، لكن القدرة الفعلية لهذا التأييد على تغيير موازين الصراع أو فرض حلول عادلة على الأرض تبقى محدودة، في ظل انفراد الولايات المتحدة بدعم إسرائيل بشكل مطلق وفعّال، على حد تعبيره.
وفي ما يتعلق بالاستراتيجية المصرية، أشار الغباشي إلى أن القاهرة تحاول انتهاج سياسة تنويع مدروسة في علاقاتها الدولية، لكن النجاح في ذلك يتطلب تحديد أولويات واضحة، وتطوير أدوات تأثير حقيقية على الشركاء الدوليين، مضيفاً: "نحن نناور بالفعل، لكننا ما زلنا بحاجة إلى قدر أكبر من الحرفية والدقة في إدارة هذه المعادلة الدقيقة".
وختم بالإشارة إلى أن مستقبل "بريكس" بوصفها قوة فاعلة في النظام الدولي يتوقف على قدرة المجموعة على التحول من تكتل اقتصادي إلى كيان يمتلك أدوات حقيقية على الأرض، وخصوصاً إذا ما نجحت في خلق تنسيق فعلي بين قواها المتناقضة، مثل الهند وباكستان أو إيران والصين، وهو تحدٍّ معقد لكنه ليس مستحيلاً.

Related News


