في جلباب جلال الدين الرومي
Arab
6 hours ago
share

ليس للصُّوفية تاريخ نشأة متّفق عليه، لكن الآراء تكاد تتفق على أن بذور التصوّف زرعها الزُّهاد الأوائل في القرن الأول الهجري، وأنّ أول من سُمِّي بالصّوفي هو أبو هاشم الكوفي في القرن الهجري الثاني. أما كلمة الصّوفية بالجمع، فظهرت في بداية القرن الهجري التالي، الثالث، لكن هناك من يعيدها إلى فترات ما قبل الإسلام.

في كل تلك الحالات، للصّوفية والتصوّف مسارات عديدة. وإلى جانب صوفية جلال الدين الرّومي وأساتذته من الدراويش، وبين صوفية الزّوايا والأولياء والصّالحين ينضاف ذوو "الطاقة الإيجابية النّورانية" الذين يملأون الشّاشات حيثما نظرنا، فروق شتّى. لا حدَّ لأشكال الصُّوفية المزعومة، ولا أحد من هذه المذاهب يقصد التصوّف الذي ينتج عن الالتحاف بالصُّوف. فبردُ الرّوح لا ينفع معه الصّوف، ولا التصوّف الحقيقي في عصر قائم على عكس كل ما تدعو إليه. وكل ما يمكن للمرء فعله هو انتقاء طريقة "صُوفية" ملائمة تُدفئ القلب، رغم أن الأرواح تكاد تحتاج ما هو أشدّ من الأوراد الصُّوفية والتمايل الطّقوسي.

نلتقي كل يوم أشخاصاً كُثراً يدّعون أنّهم صوفيون يحبّون الله بطريقة الصّوفيين. هذا الكلام يعاكس معنى الصّوفية فعلاً، التي هي، في نظرهم، محبةُ الله الذي سيحبّهم لذلك، ويميّزهم عن الآخرين بهذا الحب الذي يفوّت خشية المتعبّدين من الجزاء والعقاب الأخروي، فبالتالي هم غير ملزمين بعبادته، رغم أنّهم مؤمنون بهذه العبادة، إنّما يظنون أنهم وصلوا إلى درجة في حبّه تعفيهم من ذلك، ويتعاملون مع الآخرين بهذا المنطق التفوّقي.

ويكتفي هؤلاء عادة بهذا الفهم الحصري للرّوحانيات، مع أن جزءاً مهمّاً من جوهر الدين، يتمثّل في جانب العلاقات مع الآخرين، ورغم قيام معظم أركان الدين على الجانب التعبّدي، إلّا أنه كان حريصاً على المعاملات رفيقاً ضرورياً للعبادات في حياة المسلم الملتزم. ووفق هذه الرُّؤية، يُبطل سوء المعاملة، من ظلم وإساءة جسدية ولفظية، كلّ الجهود التعبّدية لصاحبها.

وتقوم كثير من روافد الدّين على أن حبّ الله يبدأ من حب خلقه. بينما يتجاهل "الصّوفيون الجدد" حقيقة استغنائه عن الإنسان عموماً، والإنسان الأناني الغارق في حب نفسه، إلى درجة توهمه أن الربّ سيحبه، رغم أنه لا يشعر إلا بنفسه، بشكل خاص.

الصّوفية حسب المؤسّسين أن تحبّ الله بمحبّة خلقه، وأن تحبّ الله لأنك تؤمن بعدله، وبأنّه يعرف سريرتك النقية، آملاً أن يحبّك بسببها فقط، ويعفيك من الطّقوس المفروضة على الآخرين. وهذا يحيل إلى عدم الحاجة إلى التعبّد المادي الطقوسي العادي، لأن الرّوح تعبد بطريقتها المتسامية، الزّاهدة في كل شيء دنيوي.

ومع موضة الصوفية الشّكلية التي تروّجها الطرق الصّوفية، نستغرب وجود شخصياتٍ محترمةٍ متعلّمة وذات مناصب رفيعة، منها وزراء وسفراء وأطباء، في مواسم الطرق الصّوفية التي تنمّ طقوسها عن إرثٍ يقوم على خرافاتٍ وطقوسٍ غير عقلانية. وهو أمر يناقض المزاعم التي تحاول إخراج المريدين من جبّة الطقوس الدينية إلى عالم الروحانيات، وهو عذر أولئك للانتماء إلى هذه الطرق.

وفي حين قام التصوّف على نبذ المحيط الاجتماعي، وتخلّى عن مفهوم المِلكية والاهتمام بالمادّيات لحساب الروحانيات، تركّز اهتمام الطرق الصّوفية على الطقوس القائمة على ممارسات مادّية تناقض الفهم الأول للتصوّف، ومنها تقديس الأولياء والمواسم، فتُولي الجانب الاجتماعي أهمية كبيرة، من خلال إيجاد قطب يقوم على رمز سلطوي أبوي يُقدّس فيه شخص يتمثل في الشيخ الذي يقوم مقام الأب في الطريقة، وهي رؤية سلطوية. مع مزار يجتمع فيه المريدون، وهم الأبناء البررة، يتمثل في أضرحة الأولياء، التي تجمعهم في دائرة اجتماعية جديدة. هذه الدائرة قائمة ككل الدوائر التقليدية على التّوريث وتمييز الأنساب، التي يُحرَص أن تكون عائدة إلى النبي، والتي تمنح لفئة درجةٍ أعلى من بقية أعضاء الطريقة.

في جميع الحالات، تبقى صوفية جلال الدين الرومي بعيدةً عن المزاعم الصّوفية، الحالية، ويبقى هو رمزاً كبيراً لما هو فوق مادي؛ رمزٌ فردي للروحانية، كما يجدر بالصوفي الذي لا يستغني عن الأشياء، فقط بل الناس أيضاً.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows