
بين الإيقاع والكلمة، ينسج الموسيقي والكاتب المقدسي فادي مراد خيوط مسيرته الفنية من قلب واقع معقد يعيشه يومياً. من أروقة مسرح الحكواتي إلى استوديوهات صابرين، تتقاطع تجربته مع أسئلة الهوية والانتماء، وتساؤلات التعبير في مدينةٍ تقف على حافة التغيير.
فادي مراد موسيقي وكاتب ومهندس صوت من القدس المحتلة، يتنقل بحرية بين مجالات متعددة في الحقل الفني. تخرّج من مدرسة المسرح للفنون البصرية، حيث أتمّ برنامجاً تدريبياً مكثفاً استمر لأربع سنوات، تنقل خلالها بين التمثيل والإضاءة والصوت والكتابة والإخراج. يصف تجربته بالقول: "عملنا في جميع هذه المجالات، كل ما يتعلق بالفن، لكن الأساس كان الفنون الأدائية". في هذه الرحلة الفنية، تتشابك مساعي مراد مع جوهر المدينة التي يعيش فيها، حيث تتداخل الفنون مع التاريخ، وتصبح الكلمات والإيقاعات أدوات للتعبير عن واقع صعب ومعقد.
نشأ فادي مراد في بيئة غمرها الفن منذ لحظاتها الأولى، فوالده الموسيقي سعيد مراد، ومؤسس فرقة صابرين الغنائية، هو الملهم الأول له. هذا الجو الفني لم يكن مجرد تأثير عابر، بل رسّخ في داخله حب الموسيقى والمسرح، خصوصاً في ظل والده الذي كان يعزف ثماني آلات موسيقية. يستعيد تلك المرحلة، قائلاً: "وُلدت في عالم الفن منذ صغري، كنت محاطاً بأناس يعملون في الموسيقى والغناء، وفي مسرح الحكواتي. منذ صغري كنت أحضر المسرحيات وألتقي الموسيقيين والفنانين، وأتعامل معهم".
ورغم هذا الجو الفني الغني، كان لمراد طموح مختلف بعد تخرجه من المدرسة، إذ قرر دراسة علم النفس. سافر إلى إسبانيا لهذا الغرض، وقضى هناك عاماً. خلال تلك الفترة، اكتشف شغفه من جديد، فبدأ بالتصوير والكتابة، ليجد نفسه يميل إلى الإبداع البصري والصوتي. وبناءً على هذا الاكتشاف، عاد إلى القدس ليقرّر السير في طريق أقرب إلى شغفه، ويبدأ رحلته الجديدة في عالم الموسيقى وهندسة الصوت. عند عودته، انضم مراد إلى مؤسسة صابرين ليعمل مهندس صوت، ويشرف على إدارة معظم مشاريع التسجيل والموسيقى في المؤسسة. لكنه لم يقتصر على الدور التقني فقط، بل دخل عالم الكتابة والغناء أيضاً، فكان يؤدي بصوته نصوصاً ضمن المشاريع التي يشارك فيها، خصوصاً تلك التي تميل إلى الهيب هوب والراب، رغم أنه لا يعتبر نفسه مغنياً تقليدياً.
وعن نشأته في القدس، وتحديداً في ضاحية البريد قرب بيت حنينا، يتحدث مراد بنبرة من المرارة، قائلاً: "باب داري كان الجدار. كنت تشعر بالاحتلال كل يوم، وتشعر بالعجز الهائل أمامه. كل شيء حولنا كان يؤثر في إبداعنا". هذا الشعور العميق بالحصار لا يغيب عن وعيه، خصوصاً في ما يتعلق بالقيود المفروضة على الفرص الفنية في المدينة، مقارنةً بما هو متاح في الغرب. يضيف: "كل شيء محدود، كل شيء يعتمد على الوقت والمشاريع المتاحة، وهذا يؤثر كثيراً بطريقة تفكيرنا في الفن وطريقة عملنا فيه". في نظر مراد، الموسيقى الفلسطينية ليست بعيدة عن الواقع السياسي والاجتماعي، بل هي مرآة تعكسه: "الموسيقى دائماً مرتبطة بحالة الاحتلال، المعاناة، والتعقيدات السياسية". ومع ذلك، يرى في الموسيقى مساحة للإبداع والتعبير، شرط أن يكون الفنان على دراية دقيقة بالواقع، وبالمؤسسات، وبالأفكار السائدة. ويضيف فادي: "كل شيء يعتمد على اللغة، المكان، ومن هو الجمهور"، مشيراً إلى أن العديد من الفنانين الفلسطينيين اختاروا العمل في الخارج بسبب تراجع السوق الفني داخل البلاد. ومع ذلك، لا يزالون ينقلون تجربتهم ويعبّرون عن هويتهم من خلال أعمالهم.
بالنسبة إلى مراد، الموسيقى ليست مجرد وسيلة للتوثيق، بل هي أداة مقاومة حقيقية، تبدأ من التجربة الشخصية وتُترجم إلى إبداع فني صادق. يقول: "كل شيء أعمله ينبع من تجربتي الشخصية، دائماً أسعى لأن أكون صريحاً وأعبّر عن الواقع كما هو". الصدق محور تجربة مراد الفنية، فيرى أن ما يدفعه إلى التأليف الموسيقي هو رغبته في التعبير عن نفسه بكل عفوية من دون تصنّع. يؤكد أنّ "المهم أن يكون الفنان هو نفسه من دون تكلف، وألا يتحول إلى شخص آخر غيره". كذلك يعترف بأن الوضع في فلسطين غير مستقر على الأصعدة السياسية والنفسية والاجتماعية، ويصف شعوره الدائم بأنه يعيش على الحافة: "إما سأقع، وإما سأطير. ليس واضحاً أين أنا".
في ظل هذا الغموض الذي يحاصر البلاد ويحاصر فادي مراد ومستقبله كأي شاب آخر في فلسطين، يرى الفنان أن مشاعره هي الأداة الوحيدة التي يمكنه الوثوق بها لتوثيق الواقع، ويترجمها إلى موسيقى تنقل الألم والأمل معاً: "أترجم مشاعر الناس من خلال تجربتي الخاصة، وأسعى دائماً لأن أكون جزءاً منهم".
يعمل مراد حالياً على مشروعين رئيسيين: الأول مع مسرح الحكواتي، إذ يشارك في مسرحية بعنوان "مكالمة عن بعد"، التي ألّفها وأخرجها. تتضمن المسرحية خمسين دقيقة من الأداء الموسيقي والدرامي، وتعكس تجربة شخصية مليئة بالكوميديا والحزن، والتأمل في عبثية الحروب والغربة التي تكتنف العالم. أما المشروع الثاني الذي يعمل عليه مراد، فهو ضمن برنامج "مشكال" للإقامة الفنية المموَّل من الاتحاد الأوروبي، ويُدار بالتعاون بين معهد غوته والمجلس الثقافي البريطاني. يهدف هذا البرنامج إلى تطوير أعمال فنية تعكس الموروث الثقافي الفلسطيني المادي وغير المادي، مستوحاة من التراث المعماري الفلسطيني. بدأ مراد إقامته في هذا المشروع منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فعمل على إنتاج فيديوهات موسيقية وكتابة تراكات بالتعاون مع موسيقيين ومصورين محليين. أحد هذه الأعمال سُجّل مع فنانة من مخيم شعفاط، وتركز التجربة على التفكير الجماعي والإبداع المشترك. يصفها: "عملنا معاً كزملاء يفكرون معي، وليس فقط منفذين".
وفي إطار مشروع "مشكال"، ألّف ولحّن وأدّى مراد أغنيتين، حملتا عنوانين باللغة الإنكليزية Clueless (جاهل) وConditional Growth (النمو المشروط). الأغنية الأولى تتناول موضوع بناء الثقة، وتحمل طابعاً طفولياً لكنها مليئة بالأمل. أما الثانية، فهي أكثر قتامة، وتعكس مشاعر الإحباط واليأس من واقع فلسطيني مضطرب، وتتأمل في السؤال الكبير: "هل هناك أمل في البقاء؟". ستُعرض الأغنيتان ضمن عروض مشروع "مشكال" في رام الله، إذ تتناولان موضوعات الخوف، والحرب، والقلق الوجودي الجماعي. وتستمد الأغنيتان قوتهما من تجربة فادي مراد الشخصية في القدس.
شارك في مهرجان في سويسرا من خلال عرض مسرحي مميز، وكان له دور بارز في مسرحية "غورنيكا ــ غزة" التي أُنتجت بالتعاون مع مسرح عشتار، وعُرضت في عدة أماكن داخل فلسطين. إضافة إلى ذلك، عمل مهندسَ صوت مع فرقة شادن للرقص المعاصر من الناصرة، وساهم في مهرجان فني في عمّان، وهي تجارب يعتبرها "مفصلية" في مسيرته المهنية.
من وجهة نظره، يعاني المشهد الفني الفلسطيني، خصوصاً بعد الحرب، من قلة الفرص والموارد، ما دفع العديد من الفنانين إلى مغادرة البلاد بحثاً عن بيئة إبداعية أكثر ملاءمة. ومع ذلك، يشير فادي مراد إلى وجود محاولات في الداخل، خصوصاً في القدس، لبناء مشاريع فنية تعكس الرواية الفلسطينية، رغم التحديات الكبيرة. يؤمن بوجود جيل جديد سيخلق هوية موسيقية فلسطينية حديثة، لكنه يشدد على ضرورة توفير الفرص والدعم لهم.
هذه الثقة بالشباب ترافقه في رؤيته المستقبلية، إذ يحلم بأن يصبح ممثلاً عالمياً وأن يعرض موسيقاه وأعماله في مختلف أنحاء العالم، ضمن بيئة فنية تؤمن برؤيته وتدعم إيصال صوت جيله. بالنسبة إلى فادي مراد، صوته هو الأداة التي يعبّر من خلالها عن مشاعره وتجارب حياته، محوّلاً إياها إلى أعمال فنية نابضة بالصدق، تُجسّد حالة الفنان الفلسطيني الذي يسعى لأن يكون "نفسه" وسط واقع مؤلم ومعقد.

Related News


