"مدرسة الجامع" والبحث في دفاتر مصر القديمة 
Arab
4 hours ago
share

"الإسلام دين ودولة" هكذا تقول أو تنشد الوصول، جماعات إسلامية تحاربها دول ما بعد الاستقلال العربية منذ عشرات السنين، فلا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت، بعد معارك عبثية تنتقل من عاصمة إلى أخرى والحال على "شوفة عينك"، كما يقول المثل الحائر انتماء وقبلها حالاً ومآلاً بين أكثر من قُطر، لكن الأكثر حيرة هو أن تجد الدولة بشحمها ولحمها وعبر أكثر مؤسساتها الوطنية انشغالاً ببناء القوة الصلبة، منغمسة في منافسة مع "خصومها المفترضين" لتحقيق أكبر أهدافهم ومنتهى أحلامهم، فلم الصراع إذن؟ إذا كان مناطاً بالأكاديمية العسكرية المصرية تأهيل وتدريب أئمة وزارة الأوقاف، و"شيوخ الغد" لدى تخرجهم فيها قبل يومين، يؤدون قسماً جماعياً بحضور رئيس الجمهورية في مشهدية لافتة تماثل حفلات تخريج الكليات العسكرية، ليجتمع الدين والدولة وينصهرا معاً في لحظة هيمنة السلطة الزمنية على الروحية واتحادهما في النظام ناسوتاً ولاهوتاً بالوقت ذاته.

هذه الثنائية القروسطية لا مثال أبلغ في الدلالة عليها من طرح، في عام 2025، بتحويل الجوامع إلى مدارس أو كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي: "ممكن أعمل الجامع ويبقى جواه المدرسة"، وهي صيغة انتهت رسمياً في القاهرة مع تأسيس ديوان المدارس في عهد محمد علي عام 1837، بعدما كان الجامع الأزهر بمصر و"القرويين" بالمغرب و"الزيتونة" في تونس و"الأموي" في سورية، وغيرها من دور العبادة، بمثابة مؤسسات تعليمية تدرس أعداداً قليلة من السكان علوماً دينية وعلى هامشها بعض المواد العقلية والعلوم الدنيوية مثل المنطق والفلك، بينما اليوم كيف يمكن هندسياً تحويل المساجد ذات المساحات المفتوحة إلى فصول تتمتع بالخصوصية والهدوء وغياب التشويش اللازم لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الطلاب، وتدريسهم علوماً معقدة تتطلب معامل ومخابر متنوعة، وقبلها مساحات متباينة لممارسة الأنشطة، أين يمكن أن يلعب الأطفال خلال فترات الاستراحة؟ هل تكفي دورات المياه الخاصة بالمساجد لاستيعاب أعداد الطلاب؟ متى تنعقد الحصص الدراسية وكيف يمكن ألا تقطعها مواعيد الصلاة؟ عدا عن ذلك مسائل التهوية والأثاث المناسب للتعليم تكنولوجياً كاللوحة الدراسية والمقاعد، أم سيجلس الطلاب أرضاً يرددون موادهم العلمية وأجسادهم تهتز إلى الأمام ثم تعود إلى الوراء كتلك التي تعرضها الأفلام التاريخية لدى حديثها عن أساليب التدريس قبل مئات السنين.

أين يمكن تخزين مستلزمات العملية التعليمية في حال انتهى وقت الدراسة وحان وقت الصلاة؟ ومن يقوم بكل هذا؟ وكيف يحافظ على نظافة بيت الله؟ ومن سيقبل الالتحاق بمدرسة الجامع؟ ومن ستخصص له المدرسة النظامية الحديثة، أليس أبناء الأغنياء أو من لديهم واسطات؟ ألن يتسبب هذا في تمييز اجتماعي يحرم المهمشين والفئات الفقيرة من أملهم الوحيد في الارتقاء عبر دراسة تطور تفكيرهم وتحدث عقولهم في بيئة تربوية متكاملة؟

المدرسة المؤهلة تعليمياً وتربوياً وهندسياً لاستقبال أبناء المصريين ليست رفاهية وإنما قلب أي مشروع نهضوي وركن أساسي في بناء منظومة الأمن القومي، وثمار هذا النوع من المدارس تبدت تاريخياً في كبار الأدباء والمفكرين والعلماء والسياسيين الذين تعلموا في قاعاتها الدراسية الواسعة، وقرأوا في مكتباتها العامرة، ومارسوا تجاربهم العلمية وحتى التشريح في مخابرها، وأتقنوا فنون الموسيقى والمسرح بها، ودرّستهم نخب من المصريين، كما جاء في وصف العديد منهم لمدارس حكومية مثل السعيدية بالجيزة، وتخرج فيها جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل والخديوي إسماعيل الثانوية التي تخرج فيها أحمد شوقي وسعد زغلول ومحمد علي الثانوية بالقاهرة التي تخرج فيها نجيب محفوظ ويوسف إدريس ومدرسة فؤاد الأول التي تخرج بها صلاح جاهين وكمال الدين حسين، وكلها محاضن ألهمتهم وعياً وطنياً وثقافياً لم يعد متوفراً، والسبب أن مدارس اليوم ليست مؤسسات تعليمية حقيقية "حكومية وخاصة وإنترناشيونال"، هي "شبه مدارس" تنطبق عليها "نظرية الشبهية" لصاحبها الفنان الراحل وابن المنظومة التعليمية الأصلية صلاح السعدني لدى وصفه حال مصر في الثمانينيات قائلاً في لقاء بثته قناة دبي زمان: "إحنا عندنا اتحاد كرة بس شبه اتحاد الكرة وبنلعب كرة شبه بتوع برا وعندنا أفلام شبه أفلام هوليوود وعندنا كل حاجة في الحياة شبه حياة ناس تانية.. فأنا أتمنى إننا نتنتقل من الشبهية للمرحلة الجدية"، وإلى أن ننتقل إلى المدارس الحقيقية لا يملك مصريون كثر سوى التحسر على ماضي بلادهم أو "حالنا زمان"، كما يقولون من دون تحديد أسباب النكوص المتوالي تربوياً وتعليمياً، فلم تعد في البلاد نخب مماثلة والسبب معروف "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع"، كما قال الرئيس في عام 2018، مشيراً إلى أن بعض الدول العربية التي تعاني من الفوضى كانت نسب التعليم فيها عالية لكنهم فشلوا في صياغة الشخصية التي تحمي بلادهم. فهل نجحنا نحن أو سننجح لدى البحث في الدفاتر القديمة؟!

أزمة التعليم في مصر، أنه لم يحظ باعتراف من النظام، ولم يصنف باعتباره مشروعاً قومياً مثل تلك التي انطلقت بعد 2013 وصرفت عليها مليارات الدولارات، بينما ميزانية التعليم تتراجع حتى أصبح لدينا عجز قدره الوزير في بداية العام الجاري بـ 650 ألف معلم و250 ألف فصل دراسي، وكما تقول المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في ورقة مهمة بعنوان "حقائق عن الإنفاق على التعليم"، صدرت بداية العام الماضي، إن نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج المحلي أصبحت في أدنى مستوياتها منذ تحديدها في الدستور المصري الصادر في عام 2014، والذي يحكم بموجبه الرئيس الذي أقر في يونيو/حزيران من عام 2023 بأن الحكومة لا تلتزم بالحد الأدنى الدستوري للإنفاق العام على كل من التعليم والصحة، فرغم زيادة المبالغ السنوية التي يتم تخصيصها للإنفاق على التعليم، تتراجع نسبتها من الناتج المحلي بشكل منتظم، تماماً على عكس ما يلزم به الدستور الحكومة من الوصول بنسبة الإنفاق إلى 4% من الناتج كحد أدنى للتعليم الأساسي، مضافاً إليها 2% أخرى للتعليم الجامعي (بإجمالي 6%)، بداية من عام 2016-2017 واتخذ الإنفاق مساراً نزولياً منذ هذا التاريخ، حتى وصل إلى أقل مستوى له في العام الماضي، بنسبة 1.94%، أي أقل من ثلث النسبة الدستورية. و"لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا"، كما يقول محمود درويش، و"لكن الشقاء الكامل أن يكون حاضرُنا أفضل من غدنا، يا لهاويتنا كم هي واسعة".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows