
الرشــــــــــــــــاد بــــــــــــــــرس ــــــ اقتــــــــــصاد
تشهد الأسواق العالمية تراجعًا ملحوظًا في قيمة الدولار، ما يثير مخاوف متزايدة من فقدان الثقة بالولايات المتحدة كقوة اقتصادية مستقرة وموثوقة. ويقارن بعض المحللين ما يحدث اليوم بما جرى للجنيه الإسترليني عقب أزمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، رغم اختلاف السياق التاريخي والسياسي.
انخفاض غير معتاد في قيمة الدولار
منذ منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، هبط الدولار بنحو 9% أمام سلة من العملات الرئيسية، مسجلًا أدنى مستوياته منذ ثلاث سنوات، وهو تراجع وصفه الخبراء بـ”الاستثنائي” نظراً لسرعته وحدّته. ويعزو كثيرون هذا الانخفاض إلى اضطرابات السوق الناتجة عن سياسات ترامب التجارية، التي تعيد تشكيل النظام التجاري العالمي بطريقة أثارت قلق المستثمرين وحلفاء الولايات المتحدة على حد سواء.
الثقة في الاقتصاد الأميركي على المحك
لطالما شكّل الدولار ملاذًا آمنًا في التجارة العالمية، ومصدرًا لهيمنة أميركية سمحت لواشنطن بالاقتراض بكلفة منخفضة، والتحكم في النظام المالي العالمي، وفرض عقوبات فعالة على دول مثل إيران وروسيا وفنزويلا. لكن هذه المكانة الفريدة أصبحت مهددة بفعل التوترات الاقتصادية والسياسية، ما قد يؤدي إلى زعزعة هذا الامتياز الاستثنائي.
يقول الخبير الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا، باري آيكنغرين: “لقد بُنيت الثقة بالدولار على مدى أكثر من نصف قرن، لكنها قد تنهار في لحظة”.
أزمة ثقة متصاعدة
أشار بنك دويتشه بنك في مذكرة حديثة للعملاء إلى أن “خصائص الدولار كملاذ آمن تتآكل”، محذرًا من “أزمة ثقة” وشيكة. وذهبت مؤسسة كابيتال إيكونوميكس إلى حد القول إن هيمنة الدولار العالمية باتت موضع تساؤل حقيقي لأول مرة منذ عقود.
ما يزيد من خطورة الوضع أن هذا التراجع في قيمة الدولار يأتي في وقت ترتفع فيه الرسوم الجمركية على الواردات، وهو ما كان يفترض أن يعزز قوة الدولار عبر تقليل الطلب على السلع الأجنبية. لكن ما حدث هو العكس، ما فاقم القلق لدى المستثمرين بشأن المستقبل.
تداعيات على المستهلكين والأسواق
يعني ضعف الدولار ارتفاع أسعار السلع المستوردة، بدءًا من الإلكترونيات الكورية، ووصولًا إلى السيارات والأدوية. كما يؤثر على أسعار الفائدة، حيث يطالب المقرضون بعوائد أعلى مقابل ما يرونه مخاطرة متزايدة، ما قد يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الرهون العقارية وقروض السيارات والدين العام الأميركي.
وقد تصل التداعيات إلى مستويات خطيرة، مع بلوغ الدين الفيدرالي الأميركي نحو 120% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل عادة ما يؤدي إلى أزمة مالية في أي اقتصاد آخر، لولا الاعتماد العالمي على الدولار.
الصين والبدائل المحتملة
في ظل هذا التراجع، تسعى دول أخرى، وعلى رأسها الصين، إلى تقديم بدائل عملية للدولار. فقد عقدت بكين اتفاقيات تجارية تعتمد اليوان مع دول مثل روسيا والبرازيل وكوريا الجنوبية، كما تقدم قروضًا باليوان لدول تواجه أزمات سيولة مثل الأرجنتين وباكستان، ما يضعف تدريجيًا هيمنة الدولار كعملة احتياطية.
وحذر لاري فينك، رئيس مجلس إدارة شركة بلاك روك، في رسالته السنوية للمستثمرين، من أن “استمرار تفاقم العجز الأميركي قد يدفع العالم إلى البحث عن بدائل للدولار، سواء في الأصول الرقمية مثل بيتكوين أو غيرها”.
الأسواق تفتقر للبديل
مع ذلك، يشير محللون إلى أن العالم لا يزال يفتقر إلى بديل حقيقي للدولار من حيث الحجم والسيولة والثقة. يقول ستيف ريتشيوتو، كبير الاقتصاديين في مجموعة “ميزوهو فايننشال”: “لن تفقد الولايات المتحدة وضع عملتها الاحتياطية إلا إذا وُجد بديل حقيقي. وحتى الآن، لا يوجد”.
ترامب والرسائل المتضاربة
تعزز السياسات المتقلبة للإدارة الأميركية من هذه الأزمة. إذ لا تتعلق المشكلة فقط بفرض الرسوم الجمركية، بل بالطريقة التي طُبقت بها، وبالتقلب في الرسائل والمواقف. كما أن تدخل ترامب المتكرر في عمل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وتهديده باستبدال رئيسه جيروم باول، أرسل إشارات سلبية للأسواق بشأن استقلالية المؤسسات المالية الأميركية.
ويحذر الاقتصاديون من أن إصرار ترامب على ربط العجز التجاري بالرسوم الجمركية دون النظر إلى أداء قطاع الخدمات الأميركي، قد يؤدي إلى حسابات خاطئة. إذ يرى كثيرون أن العجز التجاري ليس بالضرورة علامة ضعف اقتصادي، بل قد يعكس قوة في الاستهلاك المحلي والاستثمار.
دروس من الماضي وتحذيرات للمستقبل
ويستحضر بعض الاقتصاديين أزمة السويس عام 1956، عندما فقد الجنيه الإسترليني مكانته العالمية بعد فشل بريطانيا في إدارة الأزمة السياسية والعسكرية، وهو ما أدى إلى تراجع سريع في الثقة العالمية بها.
يقول آيكنغرين من “بيركلي”: “قد يُذكر الثاني من أبريل، الذي أعلنه ترامب يوم تحرير، كنقطة تحول حاسمة إذا لم تُتخذ إجراءات حذرة… إنها بداية منحدر زلق قد يؤدي إلى فقدان الثقة الدولية بالدولار الأميركي”.
المصدر: أ ب