
يعيش قطاع غزة أوضاعًا كارثية غير مسبوقة في ظل عدوانٍ صهيوني همجي، يرى البشر والحجر والشجر داخل القطاع أعداء له، فخلَّف عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، معظمهم من النساء والأطفال، ودمارًا شاملًا للبنية التحتية، وانهيارًا كاملًا للمنظومة الصحية والإنسانية.
وتستمر آلة الحرب الإسرائيلية في استهداف الأحياء السكنية والمستشفيات ومخيمات النازحين، في مشهد دموي يرقى إلى جرائم حرب وإبادة جماعية، وسط صمت دولي وعجز أممي واضح وفاضح.
وفي ظل هذا المشهد الدموي، تتعاظم مسؤولية الشعوب والمجتمعات الحرة، لتقول كلمتها وترفع صوتها، عبر تحرّك شعبي أصيل يُجسّد روح التضامن مع مظلومية غزة، ويمتد ليشمل الميادين، وحملات التبرع، والمقاطعة الاقتصادية، والنضال الإعلامي، وكل أشكال المقاومة المدنية الممكنة.
- الميادين.. صوت الشعوب في وجه العدوان:
أمام هذا الجرح النازف في ضمير الإنسانية، تحضر الشعوب كحائط صدّ أخلاقي وسياسي، يرفض الصمت، ويصرّ على أن تبقى فلسطين في واجهة الوعي العالمي. ويتحول التظاهر والاحتشاد في الميادين من مجرد تعبير رمزي إلى أداة ضغط فعّالة تُظهر أن هذه القضية لا تزال حية في الوجدان الإنساني.
يرى الكاتب الحقوقي، مروان نور الدين، أن الميادين كانت دومًا صوت الشعوب حين يُحبس الصوت الرسمي وتطغى الحسابات السياسية. وأكد أن الميادين أصبحت اليوم ساحة لا بديل عنها لإعلاء الصوت ضد جرائم الحرب الإسرائيلية، وللمطالبة بوقف العدوان، ورفع الحصار، وإنهاء الاحتلال.
وقال مروان، في تصريح لـ"الصحوة نت"، إن التظاهرات الحاشدة التي شهدتها مدن يمنية، ولا زالت مستمرة بشكل شبه أسبوعي في مأرب وتعز، وكذلك مدن عربية وعالمية، والتي امتلأت فيها الساحات بالأعلام الفلسطينية والهتافات الداعمة لغزة، أثبتت أن الرأي العام قادر على إحداث أثر كبير.
وأضاف: "هذه التظاهرات الجماهيرية الكبيرة تحرج صناع القرار، وتلفت أنظار وسائل الإعلام، ولا سيما الغربية، وتخلق حالة من الوعي الجماهيري يصعب تجاهلها، خصوصًا في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي".
وأشار إلى أن هذا الاحتشاد يجب ألا يكون مؤقتًا أو موسميًا، قائلًا: "لا يكفي أن نخرج مرة عند كل عدوان، ثم نعود إلى الصمت بعد أيام، وكأن واجبنا قد اكتمل عند هذا الحد".
وأوضح نور الدين أن المطلوب هو تنظيم مستمر، مظاهرات دورية، اعتصامات أمام السفارات، فعاليات ثقافية وتوعوية، تظاهرات طلابية، وكل أشكال الحضور الجماهيري التي تحوّل التضامن إلى سلوك يومي، ورسالة دائمة مفادها أن غزة ليست وحدها.
- التبرع المالي والعيني.. العطاء مقاومة بحد ذاته:
في موازاة الحراك الشعبي، يحتاج أهل غزة اليوم إلى كل دعم ممكن، والتبرع المالي والعيني هو من أبرز الوسائل التي يمكن أن تُحدث فرقًا ملموسًا في حياة الأسر المنكوبة والنظام الصحي المتهالك ومخيمات الإيواء المؤقتة.
وتؤكد التقارير الإنسانية أن هناك الآلاف من العائلات التي فقدت كل شيء، وتنتظر يد العون لإعادة بناء حياتها، مشيرةً إلى أن تأمين الغذاء، الماء النظيف، الحليب للأطفال، الأدوية، وحزم الإسعافات الأولية، كلها أولويات ملحة.
وفي السياق أوضح الكاتب والناشط الحقوقي، بديع القدسي، أنه وفي حضرة واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث؛ تصبح فكرة اندفاع الشعوب لتقديم المساعدات والتبرعات لأهالي قطاع غزة، شكلًا من أشكال المقاومة.
واعتبر القدسي، في تصريح لـ"الصحوة نت"، أن أبسط مساعدة يقدمها المرء اليوم لغزة هي صفعة على وجه الاحتلال المجرم، وكل نشاط أو فعالية أو حملة جمع تبرعات هي إعلان بأن هناك من يرفض ترك غزة وحدها.
وشدد القدسي على أهمية تنظيم حملات تبرعات شعبية شاملة ومدروسة، تُشرك المجتمعات بكاملها، لتكون يد العطاء بحجم الجرح المفتوح. ودعا إلى ضرورة إنشاء صناديق طوارئ في مختلف الدول يمكن من خلالها الاستجابة الفورية للكارثة الإنسانية في غزة.
- المقاطعة الاقتصادية.. سلاح الشعوب ضد الاحتلال:
حول فاعلية المقاطعة الاقتصادية، يرى بديع القدسي أن المقاطعة الاقتصادية تُعد من أقوى الأدوات التي يمكن أن تستخدمها الشعوب الحرة والواعية في مواجهة الاحتلال والدول الداعمة له.
وأشار إلى أن فكرة المقاطعة الاقتصادية هي شكل حضاري وسلمي للضغط على الكيان ومَن خلفه، وتهديد ميزانية حربهم على الفلسطينيين، وقد أثبتت المقاطعة نجاعتها في تجارب عدة، أبرزها في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري.
ولفت إلى أن المقاطعة لا تعني فقط الامتناع عن شراء منتج، بل تعني وعيًا جماعيًا، وحركة شعبية مُنظمة، تبدأ من الأفراد وتنتشر في المدارس، الجامعات، النقابات، والجمعيات.
وقال القدسي: "اليوم، باتت هناك قوائم واضحة بأسماء الشركات التي تدعم الكيان المحتل، ووسائل سهلة للتعرف عليها واستبدالها ببدائل محلية أو محايدة". وأضاف بأنه "من العار والخذلان أن تذهب أموال الشعوب إلى شركات تدعم بشكل مباشر أو غير مباشر آلة الحرب الإسرائيلية".
ونوَّه إلى أهمية وجود حملات توعية وإعلام فاعل ومؤثر، يشرح للناس أثر خياراتهم الاستهلاكية، ويُشرك الجميع في فعل المقاومة الاقتصادية، ثم حين يصبح كل شراء قرارًا سياسيًا، نكون قد دخلنا بالفعل في معركة الوعي، وهي المعركة الحاسمة. وفقًا لتصريحه.
- اختبار أخلاقي للضمير:
ما يجري في غزة اليوم هو اختبار أخلاقي حاسم للضمير الإنساني. فكل موقف شعبي، وكل احتشاد أو تبرع أو مقاطعة، هو سهم في قلب آلة البطش والقتل الإسرائيلية، وصوتٌ حر في وجه التواطؤ الدولي المخزي.
وتملك الشعوب أدواتها في رفض الظلم، من خلال ثلاثية التضامن الشعبي: المشاركة الواسعة في التظاهرات، الإسهام الفاعل في حملات التبرع الإغاثي، والانخراط في المقاطعة الاقتصادية الموجّهة ضد الشركات الداعمة للاحتلال.
ويتطلب المشهد الراهن تفعيل هذه الأشكال من التضامن الشعبي وتصعيدها بطريقة منظمة ومؤثرة، بما يضمن استمرارية الضغط السياسي والشعبي والإعلامي والاقتصادي، باعتبارها معركة وعي وإرادة لا تحتمل الوهن ولا تقبل التراجع.