كيف حول الحوثيون الوضع الإنساني إلى معاناة ممنهجة في مناطق سيطرتهم؟ ( تقرير خاص )
أهلي
منذ يومين
مشاركة

يمن مونيتور/ إفتخار عبده

“لم نعد نفكر في الحياة الكريمة التي فيها بعض الرفاهية كوجود الغاز المنزلي وتوفر متطلبات المطبخ، نحن اليوم نحاول فقط أن نبقى على قيد الحياة ولو بالشيء اليسير”، بهذه الكلمات الموجعة بدأت أم محمد (35 عامًا – اسم مستعار) حديثها لـ”يمن مونيتور”، وهي تسرد تفاصيل المعاناة اليومية لأسرتها التي تعيش على هامش الحياة في العاصمة صنعاء.

نزحت أم محمد وزوجها وأبنائها عام 2017 من محافظة الحديدة إلى صنعاء، هروبًا من نيران الاشتباكات المسلحة، لتستقر العائلة في حي مذبح، حيث وجدت نفسها أمام معركة جديدة مع الفقر وشظف العيش.

ويعيش المواطنون في المناطق الخاضعة لسيطرة مليشيا الحوثي أوضاعًا إنسانية بالغة الصعوبة؛ شحة في المال، وارتفاع في أسعار السلع الغذائية مقارنةً بدخلهم، ما يفاقم معاناتهم يومًا بعد آخر؛ في ظل سياسات المليشيات التي حوّلت الحرب إلى وسيلة للثراء والسيطرة.

وقد حوَّلت المليشيات الحوثية الحياةَ اليومية للمدنيين الساكنين في مناطق سيطرتها إلى رحلةٍ مريرة في البحث عن لقمة العيش والأمان، في ظل انقطاع المرتبات واستمرار السلب والنهب وفرض الجبايات، ومحاربة الأعمال الإنسانية والعاملين فيها.

تضيف أم محمد : “أبدأ يومي بتحضير وجبة الفطور على تنور ترابي صغير، أعد عليه بعض الفطائر بما يسد رمق الأسرة، أطفالي يجمعون من الشوارع القراطيس البلاستيكية وقطع الكرتون لإشعال النار التي أستخدمها في الطهي وإعداد الشاي إن توفر”.

وتصف أم محمد إحساسها بالانحدار المفاجئ من حياة مستقرةٍ إلى الجوع والعوز قائلة: “موجع جدًا شعور الفراغ بعد الامتلاء، والجوع بعد حياة هانئة، انتقلنا من مائدة عامرة بالأسماك الطازجة إلى مائدة لا يتوفر عليها سوى خبز ناشف وقليل من الشاي، كل يوم يمر علينا هو أقسى من اليوم الأول وأمرُّ منه”.

ويعمل زوجها على دراجة نارية لتأمين قوت الأسرة، لكن ما يتحصل عليه لا يكفي لتوفير أبسط احتياجات المطبخ من دقيق وزيت، فضلًا عن الإيجار ومصاريف أخرى تزداد ثقلاً مع مرور الأيام.

وأردفت “الفقر أفقدنا كل شيء جميل، أطفالي كبروا وهم لا يعرفون الألف من الباء، التعليم اليوم – حتى في المدارس الحكومية – يحتاج إلى مبالغ لا نقدر عليها، فالمدرسة الحكومية تطلب ثمانية آلاف ريال على كل طالب، غير المبالغ الشهرية التي تُفرض عليهم مقابل زينة الفصل وأمور لا نعرف جدواها”.

وتوضح أن أبناءها الكبار فقط من تمكنوا من الدراسة في الصفوف الأولى، أما الصغار فقد حُرموا من حقهم في التعليم بسبب الفقر والعجز عن سداد التكاليف.

وتستعيد أم محمد ذكرياتها قبل النزوح بنبرة حزن قائلة: “كان الطعام كافيًا لنا، كنا نتناول الأسماك يوميًا وأُعد وجباتٍ متنوعة أتفنن في طبخها، أطفالي كانوا يذهبون إلى المدرسة، وكنت أستطيع أن أشتري ما أحتاجه من الزينة، أما اليوم فنحن بالكاد نحصل على ما يخفف عنا الجوع، لا أكثر”.

وتعد أسرة أم محمد واحدة من عشرات الآلاف من الأسر التي تسكن في مناطق سيطرة المليشيات والتي تعيش بين الفقر والمرض والتهميش والملاحقات.

سياسةُ تجويعٍ ممنهجة

في السياق قال الناشط الحقوقي والإنساني نجيب الشغدري،( رئيس منظمة مساواة للحقوق والحريات): إنّ” الوضع الإنساني في مناطق سيطرة جماعة الحوثي بلغ مرحلةً غير مسبوقة من الانهيار والمعاناة”، مؤكداً أن” ما يجري لم يعد مجرد أزمة إنسانية طارئة، بل تحول إلى سياسة تجويع ممنهجة تمارسها الجماعة المسلحة المصنفة جماعة إرهابية، ضد المدنيين في أبشع صورها”.

وأضاف الشغدري لـ” يمن مونيتور” أن” توقف رواتب الموظفين منذ سنوات، وانهيار الخدمات العامة، وغياب أي مسؤولية تجاه المواطنين، جعل ملايين اليمنيين يعيشون في حالة عوز دائم، لا يجدون ما يسد رمقهم أو يضمن لهم حياة كريمة”.

وأشار إلى أن المساعدات الإنسانية تحولت إلى وسيلة للابتزاز والتمويل السياسي والعسكري، إذ تتحكم جماعة الحوثي في توزيعها، وتنهب أجزاءً منها وتبيعها في الأسواق السوداء، كما تفرض على المنظمات الدولية شروطاً تخدم مصالحها.

وأردف” الجماعة لم تكتفِ بذلك، بل وصلت إلى حد اعتقال العاملين في المجال الإنساني، ومصادرة محتويات مكاتبهم، ومنعهم من أداء مهامهم بحرية”.

وأكد رئيس منظمة مساواة أن” العمل الإنساني في مناطق سيطرة الحوثيين تحول إلى سلاح سياسي، يُمنح بموجبه الدعم للمؤيدين ويحرم منه المعارضون والمستقلون، في حين يُجبر المواطن البسيط على الصمت والجوع معًا”.

واعتبر الشغدري أن ما يجري يمثل استهدافًا مباشرًا لكرامة الإنسان اليمني ومصادرةً لحقه في الحياة، منتقدًا صمت المجتمع الدولي الذي يكتفي بالمشاهدة رغم معرفته بحجم الانتهاكات والجرائم الواقعة بحق ملايين المدنيين.

وأكد أن استمرار هذه السياسات دون مساءلة يشكّل جريمة جماعية بحق اليمنيين، مشددًا” على المنظمات الدولية والحكومة الشرعية وكل الجهات المعنية بحقوق الإنسان أن تتحمل مسؤولياتها، وأن تضع حدًا لهذا العبث الذي حوّل المأساة إلى وسيلة للتمويل، والجوع إلى أداة للهيمنة”.

استغلال وتهميش

وفي الوقت الذي تزعم فيه مليشيا الحوثي دعم مقاتليها وتكثّف جباياتها على التجار وأصحاب المشاريع الصغيرة تحت مسمى “المجهود الحربي”، تكشف شهادات من الداخل واقعًا مغايرًا تمامًا؛ فالمقاتلون أنفسهم يعانون الفقر والتهميش، خاصة الجرحى منهم الذين تُركوا لمصيرهم بعد أن انتهى دورهم في ساحات القتال.

يروي أبو عبد الله (فضل عدم ذكر اسمه)، وهو أحد أبناء محافظة إب – إحدى أكثر المحافظات التي شهدت انتهاكاتٍ حوثية – قصةً مأساوية لأحد الشباب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.

يقول أبو عبد الله لـ”يمن مونيتور ” كان الشاب يسعى للسفر إلى المملكة العربية السعودية للعمل وتأمين حياة كريمة لأسرته، لكنه اختُطف من قبل المليشيات أثناء مروره بمحافظة صعدة، وأُجبر على حضور دورات طائفية مكثفة، ليخرج منها شخصًا مختلفًا تمامًا.”

وأضاف” بعد الإفراج عنه، تأثر الشاب بالدروس التي تلقاها، وقرر الالتحاق بصفوف المقاتلين الحوثيين، متجاهلًا توسلات والدته ودموع زوجته وابنته الصغيرة”.

وحاولت الأم منع ابنها بكل الطرق، حتى لجأت إلى أحد المشرفين الحوثيين ليقنعه بالعدول عن قراره، لكن النتيجة كانت صادمة، يتابع أبو عبد الله “عاد الشاب إلى البيت ذات يوم غاضبًا، واعتدى على والدته بالضرب المبرح، وطلّق زوجته، ثم غادر مسرعًا إلى الجبهة غير آبه بدموعهما”.

لم تمضِ سوى أشهر حتى عاد الشاب جريحًا وقد بُترت إحدى ساقيه، ليجد نفسه منبوذًا من الجماعة التي خدعته بالشعارات، بعدما أصبح غير صالح للقتال.

وواصل أبو عبدالله حديثه لـ يمن مونيتور “تخلّى عنه الحوثيون تمامًا، ولم يقدموا له أي دعم أو رعاية، واليوم يعيش في وضع مأساوي ماديًا ونفسيًا، عاجزًا عن العمل لإعالة نفسه وأمه، لا يجد من يقف إلى جانبه سوى بعض فاعلي الخير والدته التي لا تزال ترعاه رغم ما فعله بها”،

وما بين وجع الجوع وبؤس الفقر، تتكشف فصول المأساة الإنسانية التي صنعتها مليشيا الحوثي في مناطق سيطرتها؛ معاناةٌ ممنهجة طالت كل تفاصيل الحياة، من لقمة العيش إلى الكرامة الإنسانية.

وبينما يزداد اليمنيون انهيارًا تحت وطأة التجويع والتهميش، تواصل الجماعة استغلال معاناتهم لتثبيت سلطتها، في ظل صمتٍ دوليٍّ مريبٍ يجعل من هذه المأساة المستمرة جرحًا مفتوحًا في وجه الإنسانية.

 

 

The post كيف حول الحوثيون الوضع الإنساني إلى معاناة ممنهجة في مناطق سيطرتهم؟ ( تقرير خاص ) appeared first on يمن مونيتور.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية