تحقيق خاص- الثمن الخفي للهجرة القسرية: زوجات المغتربين.. صانعات المعجزات أم ضحايا الغياب؟
أهلي
منذ 3 أيام
مشاركة

يمن مونيتور/ وحدة التقارير/ من بشرى عبدالرحمن

في ظل غياب الشريك بسبب الهجرة القسرية التي فرضتها الحرب الممتدة لأكثر من عقد في اليمن، تجد زوجات المغتربين أنفسهن في مواجهة مسؤوليات مضاعفة وأدوار مزدوجة لم يخترنها، لكنهن نهضن بها بإصرار يُلهم. فعلى أنقاض الوجع وطول الانتظار، شيدت كثيرات منهن قصص نجاح تتسم بالصبر والذكاء، وحوّلن الغياب القسري إلى دافع للبناء والحرمان إلى إنجاز.

جعلت الحرب الدائرة من معاناة الناس وقوداً لها، وحوّلت الاقتصاد الوطني إلى رماد، لكن بقيت زوجات المغتربين في الداخل تقاومن ليس فقط من أجل نجاة أسرهن، بل لتثبيت أدوارهن كمديرات حكيمات للمال وشؤون الأسرة. يتناول “يمن مونيتور” هذه القضية الشائكة والحساسة من خلال الاقتراب كثيراً من تجارب أولئك النسوة اللاتي فتحن قلوبهن ليروين قصصهن ومعاناتهن، إلى جانب تحليل مختصين يضعون النقاط على الحروف من جوانب نفسية، دينية، قانونية، وأمن سيبراني.

لا وقت للبكاء.. الإدارة الذاتية في مواجهة الطامعين

في “جهران” بمحافظة ذمار، تجسد “أم فهد” ـ زوجة مغترب ـ قصة صمود فريدة. منذ غياب زوجها للعمل في المملكة العربية السعودية، لم يكن لديها وقت للبكاء أو الاستسلام، بل تحولت مباشرة إلى إدارة الأرض وحمايتها. تروي أم فهد: «يوم غاب أبو فهد مات البكاء في عينيّ. لأني انشغلت بأرضنا… وعشان الحساد والطامعين في المغارس (المزارع)».

فرضت “أم فهد” قانونها الإداري الصارم؛ تذهب فجراً لتقرر شؤون الزراعة والحصاد، وتواجه الظروف بأسلوب دقيق في الحسابات وربط الأجور بجودة العمل لردع محاولات استغلالها. لكن التحدي الأكبر بالنسبة لها هو حماية التحويلات المالية لزوجها. تقول: «أُخفي الحوالة أحياناً، وأحياناً لا أبوح بالمبلغ الفعلي عن الجميع، تجنباً للتطفل والحسد».

تدير “الشيخة”، كما يلقبها أهل القرية، هذه الأموال بحكمة بالغة، حيث تخصص جزءاً للبيت والمغارس، وتحتفظ بجزء سري لضمان المستقبل وحفظ كرامة “الغائب” وتعبِه، موازنة ببراعة بين قوتها الظاهرة وما قد تشعر به داخلياً من وحدة وضعف.

7 ملايين مغترب.. الهجرة كاستراتيجية نجاة

يُطلق على المغتربين خارج أي بلد “الرافد الاقتصادي”، و”شريان الاقتصاد”، و”مصدر العملة الصعبة”، و”القوة الاقتصادية الصامتة”. وفي السياق اليمني، تشير إحصائية متداولة حديثاً صادرة عن وزارة المغتربين إلى أن عدد اليمنيين في الخارج تجاوز 7 ملايين شخص، أي أكثر من 28% من إجمالي السكان، ويمثلون 40% من القوى العاملة.

ورغم هذا الامتداد البشري الكبير ودوره الحيوي في دعم الاقتصاد المنهار، تعيش كثير من الأسر اليمنية في الداخل فراغاً إنسانياً واقتصادياً مؤلماً، حيث تحوّلت الغربة من حلّ للمعيشة إلى أزمة ممتدة داخل البيوت، تترك الأمهات معلّقات والأطفال في انتظارٍ بلا ملامح.

الإنجاز السري: التخطيط للمستقبل بعيداً عن الأعين

في مدينة جبلة، بمحافظة إب، وسط اليمن، تبرز قصة ملهمة بطلتها “أم أيهم” (33 عاماً)، التي أدخرت مصروف الغربة سراً لسنوات لتحوله إلى مأوى للعائلة. كان زوجها يعمل في جدة بالسعودية، بينما كانت هي ترسم خطة المستقبل خفية.

تقول لـ (يمن مونيتور): “كنا نسكن في بيت عمي، وكنت أحلم ببيت لنا، فقررت التوفير من الحوالات الشهرية بحكمة ودون إخباره”. بين عامي 2014 و 2019، وبمساعدة إخوتها، تمكنت أم أيهم من تحويل مدخراتها إلى واقع. وتضيف: “اشتريت أرضاً وبدأنا البناء حتى انتهينا، كنت أوفر نصف الراتب وأحياناً أكثر…”.

في 2021، حدث ما لم يكن بالحسبان؛ أُصيب الزوج بحادث في جدة وعاد إلى اليمن. تصف أم أيهم المشهد: “رجع وقلبه مكسور، يظن أنه خسر كل شيء، لكنه عندما رأى البيت، وقف صامتاً وعيناه تدمع فرحاً”. المفاجأة التي أعدتها الزوجة لسنوات كانت بلسماً لجراح الغربة، ليُقبّل رأسها قائلاً: “لقد كنتِ كنزاً لم أعرف قيمته”.

ريادة الأعمال: من التقشف إلى تأسيس مشاريع

بدأت “انتصار الصايدي” ـ زوجة مغترب ـ رحلتها الريادية قبل ست سنوات، حيث استثمرت ثقة النساء بها وأسست خدمة توصيل خاصة بعد شراء سيارة، معتمدة على مدخراتها وتحويلات زوجها وأخيها.

اتبعت انتصار مبدأ “التقشف” والادخار الصارم، متجنبة النفقات غير الضرورية، مما مكنها من تكوين رأس المال وتأسيس مجموعة محلات كوافير وتوفير فرص عمل. ثم توسعت في الاستثمار بشراء عقار والمشاركة في مشروع مدرسة خاصة. حظيت بدعم زوجها، وتغيرت نظرة محيطها الاجتماعي بعد نجاحها من التكبر إلى الاحترام. وتؤكد أن سر نجاحها يكمن في “البخل على الذات في البداية” والتوظيف الذكي للموارد المتاحة.

كما حولت “روضة الهمداني” ـ المتخصصة في تدريس الرياضيات ـ شهادتها إلى مشروع تدريس منزلي، بعد أن واجهت صعوبات مالية بسبب إدمان زوجها المغترب على إهداء الأموال في “تيك توك”، ما جعل المبلغ المرسل لا يكفيها هي وعائلتها. بدأت روضة بتقديم دورات في الرياضيات والأساسيات والقراءة والكتابة، معتمدة نظام الدفع المسبق.

أصبح مشروع الهمداني مصدر دخل لها ومركزاً لتعليم نساء وفتيات القرية. تواصل روضة تطوير مهاراتها عبر دورات “أونلاين” بينما تربي طفلها، مما جعلها تكسب احترام ودعم أهل القرية، مثبّتة أن التعليم هو الاستثمار الأقوى القادر على تحويل التحديات إلى إنجاز مجتمعي ومصدر قوة شخصية.

من قصص روضة والمتحدثات قبلها، يتأكد أن المرأة اليمنية لا تعدم الوسيلة وتواجه الصعوبات بتذليلها.

تحدي الإدارة الذاتية: “نحن لسنا ضحايا.. نحن رائدات”

ترفض “أميمة شوقي” ـ زوجة مغترب ـ التصنيف المجتمعي لزوجات المغتربين كـ”ضحايا”، مؤكدةً أن غياب الزوج حوّلها إلى قائدة مسؤولة. وتصف حياتها بتفاصيل دقيقة تجسّد إدارة كاملة للأزمة: “أدركتُ أنني لا أنتظر زوجي، بل أدير أسرة، أقوم بدور الأم والأب في وقتٍ واحد، من متابعة الدروس إلى حفظ التوازن المالي والنفسي. أعتز بهذه المسؤولية التي أكسبتني قوة لم أتوقعها”.

الهاجس الأكبر لأميمة ليس الجهد اليومي، بل النظرة المجتمعية القاصرة: “ما يؤلمني حقاً هي النظرة المجتمعية لنساء المغتربين وكأننا عاجزات، أريد أن أصرخ: نحن لسنا ضحايا، نحن رائدات نصنع المعجزات يومياً”. وتؤكد أن هذه الشراكة تقوم على الاحترام المتبادل للأدوار، حيث تحوّل الغربة إلى فرصة لبناء الذات: “زوجي يعمل بجد في الخارج، وأنا أعمل بجد في الداخل، وهذه شراكة حقيقية”. وتختتم برسالة واضحة: “…فليفهم المجتمع أن زوجة المغترب ليست امرأة تنتظر، بل هي قائدة تبني وتنشئ وتصارع من أجل أسرة متماسكة، نحن الأمهات والمعلمات والمديرات، ونفخر بهذا الدور الكبير”.

الحفاظ على شعلة الحب.. نصائح نفسية للتعامل مع البعد

في ظل تزايد سفر الأزواج لأسباب العمل، تبرز الحاجة إلى وعيٍ عاطفي يحفظ توازن العلاقة رغم المسافات. الأخصائي النفسي “محمد الشرفي” يوضح لـ (يمن مونيتور) أن التواصل المنتظم هو الركيزة الأولى لاستمرار المودة، ويضيف أن العبارات الإيجابية ورسائل الحب وصور الأبناء تُعزز القرب العاطفي وتبدد شعور الغربة.

أما عن الثقة، فيؤكد أنها حجر الأساس: “..على الزوجة أن تثق بزوجها وتتجنب الأسئلة الكثيرة أو التشكيك، فالإفراط في القلق يُضعف العلاقة”. ويشير إلى أهمية المفاجآت البسيطة: “..يمكنها إرسال هدية رمزية أو تنفيذ أمر كان يتمناه، فهذه المبادرات الصغيرة تُشعر الزوج بقيمته”. ويختم بنصيحة واضحة: “الصدق والاحترام المتبادل هما الضمان الحقيقي لاستمرار الحب رغم البعد.. والمسافة لا تُقاس بالأميال، بل بمدى التواصل والدفء الذي تحافظ عليه القلوب”.

الأمن السيبراني: اختراق وتسريب صور.. تحدٍ رقمي جديد

ضمن هذا الموضوع الشائك، تبرز قضية حساسة تتعلق بالأمن السيبراني، وما تعانيه زوجة المغترب التي قد تتعرض لاختراق حسابها، أو حساب زوجها أو هاتفه، مما قد يؤدي إلى عواقب غير متوقعة.

تروي “أم طارق المجيدي” ـ زوجة مغترب ـ لـ (يمن مونيتور) تفاصيل صادمة عن اختراق حساباتها وتسريب صور شخصية كانت تتبادلها مع زوجها. تقول: “…بدأ الأمر باختراق سناب زوجي، ثم بريده الإلكتروني بعد مصادرة رقم هاتفه، ليصل المخترق إلى بريدي وصوري في “قوقل صور”.

تفاجأتُ بوجودها على حساب مزيف في منصة “إكس” بمحتوى غير أخلاقي وكنت على وشك الانهيار”. وتضيف: “رغم غضب زوجي تعامل مع الموقف بحكمة، وتمكن من كشف هوية المخترق وإغلاق الحساب، تجاوزنا الأزمة بالتفاهم، وتعلمت أن الأمان الرقمي ضرورة لا تقل عن الثقة بين الزوجين”.

أما “إيناس العنقزي” ـ ممرضة ـ تحدثت بنبرة حازمة حين روت تجربتها مع زوجها المقيم خارج الوطن. تقول إيناس لـ (يمن مونيتور): “زوجي يصرّ دائماً على أن يراني عبر مكالمات الفيديو، لكنني أرفض، أوضح له أن ظهوري على الشبكة قد يعرّض خصوصيتنا وأمان العائلة للخطر”.

وتضيف: “أكتفي بتصوير أطفالنا وهم يلعبون أو يدرسون، وأتحدث إليه بصوتي فقط عن شؤون البيت والأولاد. في البداية كان يحزن، لكنه مع الوقت فهم أن حذري ليس بُعداً بل حماية”. تختم حديثها: “الحب الحقيقي لا يُقاس بعدد الصور، بل بعمق الفهم والاهتمام، اليوم زوجي يقدّر موقفي، ويدرك أن كل (لا) أقولها هي حماية لبيتنا”.

تحذر مختصة الأمن الرقمي “جميلة منصر” زوجات المغتربين من خطر غير متوقع يكمن في هواتفهن. وتوضح منصر لـ (يمن مونيتور): “تطبيق Google Photos يخزن صوركن تلقائياً في السحابة. إذا اخترق حساب إحداكن، قد تصل صور عائلتكن الخاصة للقراصنة”.

وتنصح بحلول سريعة: “أوقفن النسخ الاحتياطي فوراً في الإعدادات، واستخدمن Signal أو Telegram لإرسال الصور التي تختفي تلقائياً، ولا تستخدمن أرقام أزواجكن لاستعادة الحسابات”. وتؤكد الخبيرة منصر: “خصوصيتكن حصن يحمي أسرار بيوتكن”.

بالإضافة إلى ذلك، تحدثت القاضي “إكرام العيدروس” ـ عضو المحكمة العليا ـ من عدن، مؤكدة أن إرسال الصور أو الاتصال الفيديو التي تظهر العورات بين الزوجين هو فعل لا يجوز شرعاً، مشيرةً إلى أن عدم ضمان أمان هذه الملفات من الوقوع في الأيدي الخطأ يؤدي إلى مفاسد وعواقب وخيمة.

حُلمٌ تبّخر: بين الغياب والخذلان في المحاكم

هناك جزئية أخرى ضمن هذا الموضوع الشائك، وهي أن تُترك (بعض) زوجات المغتربين دون تواصل من أزواجهن أو مصاريف، فيجدن أنفسهن في مواجهة صعبة مع المحاكم لطلب الخلع. يعرض (يمن مونيتور) نماذج من هذه القصص المؤسفة استكمالاً لفكرة الموضوع ويتحدث ذوو الاختصاص القانوني عن ذلك.

بينما كانت “عصماء الشرعبي” (26 عاماً) تحلم ببيت دافئ وصوت أطفال يملأ الأركان، وجدت نفسها في قاعةِ محكمة تطلب الخلع، بعد ثلاث سنوات فقط من زواج ظنّته بداية الحلم. تروي قصتها بأسى: “أحلامي كانت وردية ككل فتاة… لكن مجتمعنا يرى في المغترب صفقة رابحة، تقدّم لي الكثير، وتزوجت واحداً منهم بعد وعود كبيرة”. لكن الواقع كان مؤلماً: “لم أجد منه لا مسؤولية ولا دعم… تخلّى عني مادياً ومعنوياً، وعشت وحدي وجعاً لم أكن مستعدة له”. وتختم بنصيحة موجعة: “ليس كل مغترب صالحاً… انظروا إلى مبادئ الإنسان، لا إلى جواز سفره أو دخله فقط”.

كما تقف “جواهر الحيمي” في أروقة المحكمة حاملة وجع خمس سنين من الانتظار بعد سفر زوجها إلى السعودية. “بعت ذهبي لأدفع تكاليف سفره، حلمت بحياة كريمة، لكنه اختفى شيئاً فشيئاً، لا عودة ولا نفقة”، وتتابع بمرارة: “لا أنا متزوجة بحق، ولا مطلقة… فقط معلّقة بين الصبر والنسيان…”. قررت جواهر إنهاء الانتظار بتقديمها طلب فسخ العقد: “…لأستعيد كرامتي، بعدما أصبحتُ ظلّ امرأة تُؤجَّل دائماً”.

القانون لا يحمي الغياب الطويل

يوضح القاضي “فؤاد أبكر” أن القانون اليمني لم يحدد سقفاً زمنياً دقيقاً لغياب الزوج، لكنه أتاح للزوجة طلب فسخ العقد في حالات محددة، خصوصاً إذا ترافق الغياب مع الهجر أو انقطاع النفقة.

يقول القاضي: “وفق المادة 52 من قانون الأحوال الشخصية، يمكن للزوجة طلب فسخ عقد النكاح بعد عام من غياب الزوج غير المنفق، وبعد عامين في حال كان منفقاً”. ويضيف بنبرة أسف: “في الفترة الأخيرة، ارتفعت قضايا فسخ العقد بشكل ملحوظ، نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية وازدياد حالات الغربة الطويلة دون التزام الزوج بواجباته”. القانون يمنح المرأة الحق لاتخاذ قرارها حين يتحوّل الزواج إلى انتظار لا نهاية له.

زوجة المغترب ليست ظل غائب.. دعوة للمجتمع بالوعي

تؤكد الدكتورة “نورية علي حمد” في حديثٍ خاص لـ (يمن مونيتور) ومؤلفة كتاب في هذا الجانب (“بعض الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهجرة الزوج على مكانة المرأة وتشكيل أدوارها في الأسرة والمجتمع”)، أن زوجة المغترب لا يجب أن تُختزل في دور انتظار طويل، بل هي محور تماسك الأسرة. «هي ليست ظلّ غائب، بل ذات فاعلة يجب أن تحافظ على توازنها النفسي والجسدي»، وتشير إلى أهمية وعيها بالدور المزدوج الذي تتحمله.

أما الزوج، فدوره لا ينتهي بالغربة، بل يجب أن يكون حاضراً نفسياً، لا شكلياً فقط. وتختم: «المجتمع مطالب بمساندتها بوعي لا شفقة، واحترام استقلالها في مواجهة فراغ قاسٍ فُرض عليها».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

The post تحقيق خاص- الثمن الخفي للهجرة القسرية: زوجات المغتربين.. صانعات المعجزات أم ضحايا الغياب؟ appeared first on يمن مونيتور.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية