يمن مونيتور/ وحدة التحليلات/ خاص:
تتجاوز استراتيجية جماعة الحوثي في اليمن حدود السيطرة العسكرية التقليدية لتتحول إلى مشروع ممنهج لإعادة هندسة المجتمع اليمني سياسياً واجتماعياً وعقائدياً. تقوم هذه الاستراتيجية على مبدأ خلق “فراغ شامل” عبر الإزالة المتعمدة لأي شكل تنظيمي غير مرتبط بها، سواء كانت دينية، قبلية، اقتصادية، أو مدنية. هذا الفراغ ليس مجرد تكتيك، بل هو شرط أساسي لا غنى عنه لتفكيك هياكل الدولة والمجتمع القائمة وإحلال المشروع السلالي للجماعة محلها.
تُعد جريمة اغتيال الشيخ صالح حنتوس في يوليو/تموز الماضي، وهو معلم قرآن سبعيني في محافظة ريمة، نموذجاً محورياً يكشف عن الأبعاد المتكاملة لهذه الاستراتيجية سياسيا واجتماعياً وعقائدياً. لم تكن هذه الحادثة عملاً فردياً أو رد فعل عشوائياً، بل بياناً استراتيجياً موجهاً للمجتمع اليمني بأسره، يوضح أن رفض الانصياع الأيديولوجي الكامل سيُقابل بعنف مفرط وتصفية جسدية.
يحلل هذا التقرير الأبعاد الرئيسية التي تتضافر لتشكيل هذه الهيمنة: الأيديولوجية، عبر السيطرة على التعليم والخطاب الديني؛ والأمنية، من خلال تصفية الرموز المستقلة وترويع المجتمع؛ والاقتصادية، عبر الإفقار الممنهج ومصادرة الأصول؛ والاجتماعية، عبر تفكيك القبيلة وآليات الوساطة التقليدية والتهجير القسري. تعمل هذه الأبعاد معاً لفرض ثنائية قسرية على اليمنيين في مناطق سيطرة الجماعة: “الولاء المطلق أو الإقصاء الوجودي بمغادرة مناطق سيطرتها”.
البعد الأيديولوجي: هندسة “المجتمع الموالي”
تعتبر السيطرة الأيديولوجية حجر الزاوية في مشروع جماعة الحوثي طويل الأمد، فهي الأداة الأساسية لبناء دولة طائفية عميقة وضمان ولاء الأجيال القادمة. لا تكتفي الجماعة بالسيطرة على مؤسسات الدولة، بل تسعى إلى إعادة تشكيل وعي المجتمع وهوية أفراده لضمان استمرارية مشروعها السلالي.
شهدت الأيديولوجيا الحوثية تحولاً جوهرياً، حيث انتقلت من كونها جماعة ضمن المذهب الزيدي إلى مشروع سياسي يسعى لإحياء “الزعامة الهاشمية” كطائفة سياسية ذات هدف سلالي. تهدف هذه الاستراتيجية إلى استبدال الروابط الاجتماعية التقليدية، وعلى رأسها “العصبية القبلية”، بـ “عصبية طائفية” يصبح فيها الولاء للحركة هو الرابط الأساسي والمحدد للهوية والانتماء. وفقاً لتحليل خلدوني، تسعى الجماعة إلى تحويل “الطائفة إلى قبيلة”. في مجتمع مثل اليمن، حيث تشكل العصبية القبلية أساس البنية الاجتماعية، يمثل هذا التحول تفكيكاً جذرياً لأسس الولاء التقليدية، بحيث يصبح الانتماء الأيديولوجي للجماعة أقوى من رابطة الدم والنسب.
- عدالة على مقاس “الحوثي”.. “دورة الولاء” تحلّ بدلاً من “شهادة القانون” في محاكم صنعاء
- “الاستثمار بقضية غزة لا يتوقف”.. الحوثيون يستكملون السيطرة على مساجد صنعاء
ولتحقيق ذلك، عمدت الجماعة إلى تفكيك المرجعيات الدينية الزيدية التقليدية غير الموالية لها، وأغلقت المراكز التعليمية التي لا تخضع لسيطرتها، مثل دار القرآن التي كان يديرها الشيخ حنتوس، ومركز للسلفيين في صنعاء في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وفي المقابل، عملت على تصعيد مراجع دينية بديلة وموالية، مثل تعيين شمس الدين شرف الدين مفتياً للجمهورية، وسيطرت بشكل شبه كامل على معظم المساجد في مناطق سيطرتها لضمان أن كل الفتاوى والخطب تخدم مشروعها بشكل حصري.

أدلجة التعليم: صناعة “جهاديي الغد”
منذ سيطرتها على صنعاء في 2014، نفذت جماعة الحوثي تغييرات واسعة وممنهجة في المناهج الدراسية، بهدف ترسيخ أيديولوجيتها وتشكيل أجيال مستقبلية من المقاتلين الموالين. شملت هذه التغييرات إجراءات رئيسية:
- محو الذاكرة الجمهورية: تم حذف فصول كاملة عن تاريخ اليمن، وأبرزها الدروس المتعلقة بثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962 التي أسست الجمهورية. واستُعيض عنها بسرديات تمجد حقبة الإمامة، في محاولة لنزع الشرعية عن الدولة اليمنية الحديثة.
- تمجيد الولاء والجهاد: أُدخلت تعديلات على تفسير الآيات القرآنية لتتماشى مع خطاب الجماعة، مع التركيز على تمجيد “الجهاد”. كما استُبدل الأبطال التاريخيون بشخصيات حوثية مثل صالح الصماد، لتقديمهم كقدوات للجيل الجديد.
- إلغاء المفاهيم المدنية: حُذفت الدروس المتعلقة بالحياة المدنية، ودور مؤسسات الدولة، ومشاركة المرأة، بهدف تحويل التعليم من أداة لبناء المواطنة إلى وسيلة للتعبئة القتالية.
إلى جانب التعليم الرسمي، تستخدم الجماعة أدوات تلقين غير رسمية لضمان غرس عقيدتها في كافة شرائح المجتمع، وأبرزها:
- الدورات الثقافية الإجبارية: تحويل مؤسسات الدولة من أداة خدمة مدنية إلى ذراع أيديولوجي للجماعة، مما يضمن أن الدولة تعمل لصالح المشروع وليس الشعب.
- المراكز الصيفية: بناء بنية تحتية بشرية مستدامة للصراع، وتطبيع العنف كجزء من الهوية الطائفية للأجيال القادمة.
إن الهيمنة الأيديولوجية الكاملة تتطلب بالضرورة القضاء المادي على أي رموز ترفض الانصياع لهذا المشروع، وهو ما يفسر اللجوء إلى العنف المفرط كأداة استراتيجية.
البعد الأمني: تصفية الرموز المستقلة وفرض الترهيب
لا يُعد العنف المفرط في استراتيجية الحوثيين أثراً جانبياً للصراع، بل هو أداة متعمدة ومحسوبة لفرض السيطرة المطلقة، وهو الأسلوب الأكثر مباشرة لخلق “فراغ” قيادي في مناطق سيطرتها. يهدف هذا العنف إلى إزالة أي “مركز ثقل اجتماعي” مستقل، سواء كان دينياً أو قبلياً أو مدنياً، يمكن أن يشكل نواة للمقاومة أو يحافظ على ضمير المجتمع خارج إطار سيطرة الجماعة.
تجسد جريمة اغتيال الشيخ صالح حنتوس هذه الاستراتيجية بوضوح. لم تكن مجرد عملية قتل، بل عرضاً علنياً للقوة تضمن محاصرة منزله بالأسلحة الثقيلة، وقصفه، وإضرام النار فيه، مما أدى إلى مقتله. الدافع الحقيقي وراء استهدافه لم يكن أمنياً، بل أيديولوجياً بحتاً؛ حيث رفض الشيخ سلسلة من الإملاءات المتصاعدة التي بدأت بمطالبته بإغلاق دار القرآن، ثم عرض إعادة فتحه بشرط تدريس “ملازم السيد” (كتيبات مؤسس الحركة)، وانتهت بضرورة الالتزام بـ”خطبة الجمعة الموحدة”. لقد قُتل لأنه رفض “الانحناء” وظل يمثل سلطة معنوية مستقلة يحتكم السكان إليها أقرب إلى بنية تنظيمية في حالتها القبلية البدائية. لم يكن استهدافه مجرد قضاء على سلطة دينية مستقلة، بل كان أيضاً اغتيالاً رمزياً لأحد وجوه الهوية الجمهورية التي تسعى الجماعة لمحوها من ذاكرة اليمنيين.
حاولت السردية الحوثية تبرير الجريمة عبر شيطنة الشيخ وتلفيق تهم “التمرد” ودعم “الكيان الصهيوني”. إلا أن فشل هذا التبرير في إقناع الرأي العام كشف عن ضعف الجماعة الأيديولوجي واعتمادها على التخوين والعنف الخام لإخضاع المجتمع، وإرسال رسالة واضحة مفادها أن الولاء المطلق هو شرط البقاء الوحيد في مناطق سيطرتها.

توسيع دائرة الاستهداف: نمط منهجي للإقصاء
يتجاوز الاستهداف الرموز الدينية ليشمل كل الفئات التي قد تشكل قيادة بديلة أو صوتاً مستقلاً، وفق نمط ممنهج يستهدف “شيوخ القبائل”، النخب المدنية والأكاديمية، والعاملين في المجال الإنساني.
- حصري- غليان الهضبة.. الحوثيون يواجهون أشباح الحرب مع المؤتمر والقبيلة
- تحقيق حصري- تمردات وصراع نفوذ.. فشل الهيكلة يشلّ مؤسسات صنعاء
منذ سيطرة الحركة على صنعاء دأبت على استهداف شيوخ القبائل وتصفيتهم، بعضهم كان موالياً للجماعة في البداية. وبناء كيان موازي قبلي خاص بها وسط القبائل من أجل فرض السيطرة عليهم؛ كان الاستعراض الذي قامت به الجماعة في أغسطس/آب الماضي أمام منزل شيخ مشايخ حاشد الشيخ حمير الأحمر في صنعاء، والمناورات القتالية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي في مناطق حاشد في عمران رسالة واضحة بأنها ستقاتلهم. وهدف الحوثيون من كل ذلك هو إزالة أي سلطة غير مركزية، حتى لو لم تكن معارضة بشكل مباشر، لضمان عدم وجود أي منافس على الولاء في مناطق سيطرتها.
حسب ثلاثة شيوخ قبائل تحدثوا لـ”يمن مونيتور” في سبتمبر/أيلول فإن الحوثيين عرضوا عليهم مغادرة مناطق سيطرتهم إلى مناطق خصومهم أو إلى السعودية بدلاً من البقاء في قراهم، مع ضمانات بعدم الاعتداء على أملاكهم وأموالهم.
رفض شيوخ القبائل وهم معارضين للحوثيين تلك العروض من الحوثيين، وأصروا على البقاء “بين أهلهم وأناسهم وأفراد قبائلهم حتى لو أدى ذلك إلى اقتتال مع الحوثيين والموت في سبيل ذلك”.
قال أحد شيوخ القبائل: المغادرة تعني ترك القبيلة والأهل مستباحة للحوثيين، من التجنيد إلى تحويلهم كأعضاء نشطين، ولو كل شيخ قبيلة ترك كل شيء يعني تسليم البلاد لهم.
الوضع في النخب المدنية والأكاديمية ليس مختلفاً، حيث يتعرضون للاختطاف والإخفاء القسري والذي تزايد في الأشهر الأخيرة من تربويين إلى أطباء ومحامين وصحافيين، يهدف هذا إلى تفريغ المجتمع من كوادره القادرة على تشكيل وعي مدني مضاد.
كما أوقف الحوثيون رواتب الأكاديميين في مناطق سيطرتهم، وأجبروهم على حضور دورات “ثقافية” كشرط لتأكيد تسلمهم لنصف راتب كل عدة أشهر. تمثل النخب المدنية والأكاديمية في اليمن التأثير الثاني بعد شيوخ القبائل وفي المناطق الوسطى مثل إب وتعز والحديدة وأمانة العاصمة يمثلون الصوت الأعلى. دفعهم إلى السجون أو دفعهم لمغادرة مناطق سيطرة الجماعة يمنح الحركة مساحة أوسع دون وجود كوادر قادرة على منع التلاعب بالوعي.
النمط الثالث مرتبط بالعمل الإنساني، خلال سنوات الحرب كان العاملون في مجال الإغاثة أكثر قرباً من الناس، في ظل رفض الحوثيين تقديم الخدمات، ورفضت المنظمات ضغوط الحوثيين بتدبيل العاملين في المجال الإنساني أو التحكم الكامل بالمساعدات لخدمة مشروع الجماعة. لذلك شن الحوثيون حملات اعتقالات واتهامات بالتجسس في خطوة غير مسبوقة كسرت كل شيء بهدف استخدامهم كورقة تفاوض للسيطرة على مسار المساعدات الحصول على تنازلات إقليمية أخرى.
أدوات الرعب والقمع
لترسيخ الخوف، تستخدم الجماعة تكتيكات الترهيب النفسي، مثل بث “فيديوهات درامية” تتضمن اعترافات قسرية للمعتقلين، بهدف تدمير سمعتهم وتحويلهم إلى خونة في نظر المجتمع. ويبدو أن الحوثيين سيوسعون من فيديوهات الاعترافات للتغطية على فشلهم في الحوكمة وترهيب المجتمع من أن الانتقاد يعني “خيانة عظمى” و”تجسس” لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل مستغلة بذلك عمليات البحر الأحمر وعملياتها ضد إسرائيل التي وقعت العامين الماضيين.

البعد الاقتصادي: الإفقار الممنهج وشرعنة النهب
تُعد السيطرة الاقتصادية ركيزة أساسية في استراتيجية الإقصاء الحوثية، وتعمل كآلية رئيسية لخلق “فراغ” اقتصادي واجتماعي. فهي لا تهدف فقط إلى تمويل مشروع الجماعة، بل تُستخدم كسلاح لتجفيف موارد الخصوم، وتفكيك الطبقات الاقتصادية المستقلة، وإجبار المواطنين على الخضوع أو الرحيل القسري.
يُعد نظام “الحارس القضائي” أداة رئيسية لمأسسة النهب، وهو يحاكي النموذج الإيراني (نظام البنياد) الذي استُخدم للاستيلاء على أصول المعارضين. يعمل هذا الجهاز على تجريد الخصوم من ثرواتهم تحت غطاء قانوني صوري، حيث تصدر المحاكم الخاضعة لسيطرة الجماعة أحكاماً بمصادرة الممتلكات بحجة “الخيانة”.
وأشرف القيادي الحوثي صالح الشاعر على مصادرة ممتلكات قُدرت قيمتها بـ 100 مليون دولار، بينما وصل عدد العقارات المصادرة إلى 1,237 عقاراً. تخلق هذه الآلية ما يمكن تسميته بـ “النزوح المدفوع بنزع الملكية”، حيث يُجبر الأفراد على المغادرة بعد تجريدهم من أصولهم ومصادر رزقهم. إن هذا النزوح المدفوع بنزع الملكية لا يهدف فقط إلى إفقار الخصوم، بل يمهد الطريق للمرحلة التالية من الهندسة الاجتماعية.
إلى جانب الحارس القضائي ودفع رجال الأعمال إلى مغادرة مناطق سيطرتها لصالح المراكز المالية الجديدة للجماعة، يسيطر الحوثيون على مصادر الإيرادات الأخرى من الاتصالات إلى والضرائب والجمارك والمستشفيات وهيئة الزكاة وفرضوا قوانين جديدة لتعزيز الهيمنة والجبايات بما في ذلك قانون الخُمس.
التطهير الوظيفي والإقصاء الاقتصادي
يمتد الإقصاء الاقتصادي إلى المؤسسات المدنية، حيث يتم تنفيذ عمليات “تطهير وظيفي” لإحلال عناصر موالية في المناصب الهامة، خاصة تلك المرتبطة بالإيرادات. فعلى سبيل المثال، تم إبعاد 19 من مأموري الضرائب لإفساح المجال أمام الموالين. تضع هذه السياسة الموظفين أمام خيار قاسٍ: إما إظهار الولاء المطلق للجماعة دون سواها والانخراط في تنظيمها، أو مواجهة الفصل التعسفي والإفقار المنظم. مع ذلك اعتقل الحوثيون الكثير من الموالين لأن لديهم ارتباطات تنظيمات كانت قبلية أو حزبية لا تخضع لسلطة الجماعة، فكرة وجود تنظيم حتى لو كان مواليا يثير قلق الجماعة.
بالإضافة إلى التطهير الوظيفي، يواجه القطاع الخاص ضغوطاً مالية هائلة عبر جبايات ورسوم تعسفية متكررة، مما يدفع رجال الأعمال إلى حافة الإفلاس أو الهجرة القسرية، ويدمر ما تبقى من الاقتصاد الوطني المستقل.
وبالفعل غادرت معظم رؤوس الأموال اليمنية إلى الخارج، وتحلّ بدلاً بذلك مراكز مالية جديدة لرجال أعمال جدد موالين للجماعة. كان لسيطرة الحوثيين وتغيير رئاسة الغرفة التجارية تأثير كبير وواسع على تدمير آخر النقابات في مناطق سيطرة الحركة وتحويلها كأداة لإنفاذ الرؤية الاقتصادية لمشروع المسيّرة.
التغيير الديموغرافي كاستثمار استراتيجي
في الفراغ الذي أحدثته المصادرة الاقتصادية، تنفذ الجماعة استراتيجية التغيير الديموغرافي لضمان الولاء طويل الأمد للعاصمة صنعاء. فقد صعدت جماعة الحوثي من إجراءاتها الممنهجة للاستيلاء على الأراضي في العاصمة صنعاء ومحيطها، بحجة أنها تابعة لوزارة الدفاع أو الأوقاف.
الهدف الاستراتيجي من وراء ذلك يتجاوز المكسب المادي، إذ يهدف إلى إحداث تغيير ديموغرافي عميق عبر توطين عناصر موالية قادمة من معاقل الجماعة في صعدة وحجة. يهدف هذا الإجراء إلى إنشاء حزام أمني حول العاصمة، وتغيير نسيجها الاجتماعي، وإنهاء دورها التاريخي كـ “حاضنة لكل اليمنيين”.
التداعيات الاجتماعية: تفكيك النسيج المجتمعي والتهجير القسري
تؤدي الاستراتيجيات الحوثية المتكاملة إلى تفكيك منهجي للروابط الاجتماعية التقليدية التي شكلت أساس التماسك في اليمن، مما يوسع “الفراغ” ليشمل البنية الاجتماعية نفسها. وفي هذا السياق، لم يعد التهجير القسري أثراً جانبياً للحرب، بل تحول إلى أداة متعمدة لإعادة تشكيل ديموغرافية البلاد بما يخدم المشروع الطائفي للجماعة.
تقويض آليات الوساطة والعقد الاجتماعي
تم تحييد الدور الحيوي الذي كانت تلعبه الوساطة القبلية والدينية في فض النزاعات وحماية الأفراد. تشير الوقائع إلى أن الوساطة المحلية “لا تُقبل إلا إذا كانت تحسم لصالحهم”. وتعد قضية الشيخ حنتوس مثالاً صارخاً على ذلك، حيث فشلت كل جهود الوساطة المحلية في إيقاف قرار تصفيته الذي اتُخذ مسبقاً، مما يثبت أن الجماعة تسعى لإلغاء العقد الاجتماعي التقليدي وفرض سيطرتها المطلقة بالقوة.
التهجير القسري كأداة تغيير ديموغرافي
يتم التهجير القسري بأسلوبين: مباشر، عبر تفجير منازل المعارضين وترحيل السكان بقوة السلاح، وهو ما يُعد عقاباً جماعياً؛ وغير مباشر، عبر خلق بيئة من الضغط والاضطهاد تجعل البقاء مستحيلاً. وتُعد حالات تهجير سكان قرى في تهامة، مثل منظر والجراحي، وفي البيضاء وتعز وإب، دليلاً واضحاً على تطبيق استراتيجية تهدف إلى إحداث تغيير ديموغرافي وتأمين مناطق نفوذها.
وتؤكد بيانات النزوح هذا النمط، حيث لا يقتصر النزوح على مناطق القتال، بل يشمل تدفقاً كبيراً من المراكز الحضرية الخاضعة لسيطرة الجماعة، مما يثبت أن الضغوط الأمنية والاقتصادية والاجتماعية هي محرك أساسي للتهجير القسري.
خلاصة استراتيجية: التداعيات على هوية اليمن ومستقبل الاستقرار
إن استراتيجية الحوثيين، كما يتضح من تحليل أبعادها المتعددة، هي عملية واعية ومتكاملة لـ “إعادة تشكيل البيئة الاجتماعية والدينية” ومحو كل “ذاكرة مقاومة” مستقلة في اليمن. هذا النهج لا يهدف إلى السيطرة السياسية المؤقتة، بل يسعى إلى إحداث تغيير هيكلي ودائم يضمن بقاء المشروع السلالي للجماعة.
تتمثل أخطر التداعيات طويلة المدى في التأثير على الهوية اليمنية، حيث إن أدلجة جيل كامل عبر نظام التعليم ستجعل من أي حل سياسي مستقبلي أمراً بالغ التعقيد. فالدولة اليمنية القادمة ستواجه جيلاً تمت تعبئته عقائدياً لرفض مفاهيم المواطنة والجمهورية. ومع ذلك، قد يكون لهذا التوحش تأثير عكسي؛ إذ تشير التحليلات إلى أن الجماعة تشعر بأنها “معزولة عن الشعب اليمني”، وأن العنف المفرط يزيد من المقاومة الشعبية ويعمق الهوة بينها وبين المجتمع، مما يشكل تحدياً مستداماً لشرعيتها.
تعتمد استراتيجية جماعة الحوثي على مشروع ممنهج لخلق “فراغ شامل” عبر إزالة أي هيكل تنظيمي مستقل في المجتمع اليمني (قبلي، ديني، مدني، اقتصادي)، وإحلال مشروعها السلالي الطائفي محله. يتمثل الهدف الأيديولوجي المحوري في الانتقال من روابط المجتمع التقليدية إلى “عصبية طائفية” يكون فيها الولاء المطلق للحركة هو المحدد الأساسي للهوية. ولتحقيق ذلك، يتم تفكيك المرجعيات الدينية الزيدية التقليدية، وتسييس المساجد، وأدلجة التعليم بشكل واسع عبر محو الذاكرة الجمهورية وإحلال سرديات تمجد الولاء والجهاد، بهدف بناء جيل موالٍ يُعرف بـ “جهاديي الغد”.
لفرض هذا التحول، تستخدم الجماعة العنف كأداة استراتيجية لخلق فراغ أمني واجتماعي. لا يُعد العنف أثراً جانبياً، بل هو وسيلة محسوبة لإزالة “مراكز الثقل الاجتماعي” المستقلة (مثل اغتيال شيوخ القبائل والرموز الدينية والنخب الأكاديمية)، وإرسال رسالة واضحة بأن أي رفض للانصياع الأيديولوجي الكامل سيُقابل بعنف مفرط. بالتوازي، يُستخدم البعد الاقتصادي كسلاح رئيسي عبر آليات مثل نظام “الحارس القضائي” لمصادرة أصول الخصوم تحت غطاء قانوني، مما يؤدي إلى “النزوح المدفوع بنزع الملكية وإفقار الطبقات المستقلة.
تتضافر هذه الأبعاد لتؤدي إلى تفكيك منهجي للنسيج المجتمعي وإحداث تغيير ديموغرافي قسري. يتم تقويض آليات الوساطة القبلية التي كانت تحمي الأفراد، ويتحول التهجير القسري إلى أداة متعمدة (مباشرة أو غير مباشرة) لإعادة تشكيل ديموغرافية البلاد، خصوصاً في العاصمة ومحيطها، عبر توطين عناصر موالية من معاقل الجماعة. هذه الاستراتيجية تفرض ثنائية قسرية على اليمنيين في مناطق سيطرة الجماعة: “الولاء المطلق أو الإقصاء الوجودي بمغادرة مناطق سيطرتها”، بهدف تأسيس دولة عميقة مبنية على الهيمنة السلالية.
The post “الفراغ الشامل”.. كيف يُهندِس الحوثي المجتمع الجديد؟ استراتيجية “الولاء المطلق أو الرحيل” appeared first on يمن مونيتور.