
عربي
بينما اتّجهت أنظار العالم نحو غزّة لمتابعة تفاصيل القمّة الموسّعة التي استضافتها مصر في شرم الشيخ لإقرار اتفاق إنهاء الحرب، كانت إيران حاضرةً في تلك القمّة من غير أن تحضر، فكانت محطّ اهتمام الإعلام، الذي حاول بشغفٍ معرفةَ إذا كانت طهران سترسل وفداً للمشاركة، وأسباب امتناعها عن ذلك. لكن الحضور الأبرز كان على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي قال إن إيران مدعوّة إلى المشاركة في "السلام" الذي يُفترض أن يعمّ المنطقة، وإنّ الإيرانيين يريدون السلام أيضاً. ويمكن اعتبار هذا الكلام خطاباً تودّدياً إلى طهران، وبصفة خاصّة إلى الشعب الإيراني.
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يخاطب فيها ترامب إيران بدبلوماسية، لكنّها الأولى التي يشير فيها صراحةً إلى إمكانية تحقيق السلام معها، وتمثّل المرحلة الراهنة أهميةً كبرى لإيران، إذ عليها اتّخاذ قرارات صعبة ومفصلية، ستنعكس آثارها على المستويَين، الإقليمي والعالمي، ومن قبلهما على المستوى الداخلي في إيران نفسها.
تعني رسالة ترامب إلى طهران أنّ عليها الاختيار (عاجلاً) بين الانضمام إلى موجة التسويات والتهدئة التي بدأت تزحف على الشرق الأوسط، أو الاستمرار في حساباتها التقليدية ومنطقها الذي يستبعد مصالح الآخرين، ويقتصر على حساباتٍ ذاتيةٍ ضيّقةٍ قصيرةِ النظر.
وبغضّ النظر عن مدى صواب الطريق الذي ستختاره طهران أو خطئه، فإنّ لكل اختيار تبعاته واستحقاقاته، وعلى الحكومة الإيرانية أن تُحسن قراءة المعطيات الجديدة في المنطقة التي تغيّرت فيها موازين القوى والتوازنات بين الأطراف والقوى الإقليمية، وخصوصاً تلك الكيانات والتنظيمات التي كانت تعمل لحسابها في دول عدّة في المنطقة، فقد انكسر معظمها، وكادت قواها تنهار تماماً خلال الأشهر الماضية، ما أفقد طهران أشدّ أوراقها الإقليمية تأثيراً، مثلما فقدت أبرز حلفائها الإقليميين بسقوط نظام بشّار الأسد في سورية.
الأهم من ذلك كلّه أن إسرائيل، التي وجّهت ضربات عسكرية وأمنية قاسية إلى إيران (في يونيو/ حزيران الماضي)، اقترب خروجها من مستنقع غزّة، ما يعني التفرّغ تماماً لإيران، فنتنياهو يبحث عن معركةٍ تُطيل عمره السياسي، وأعلن مسؤولون إسرائيليون صراحةً أنّ ضرب إيران مجدّداً مرجّح بقوة، وذلك كلّه لا بدّ أن يدقّ جرس إنذار لصانعي القرار في طهران، بأن الخيارات المتاحة أمامها تضيق سريعاً، وعليها تحديد في أيّ اتجاه تسير. فخلال الأشهر الماضية التي تلت مواجهاتها العسكرية مع إسرائيل وواشنطن، حاولت إيران استهلاك الوقت، وتبديل المسارات بين الشدّ والجذب مع واشنطن والترويكا الأوروبية، غير أن المحاولة أخفقت، وجدّدت أوروبا "آلية الزناد" ردّاً على المماطلة الإيرانية، وكما يمكن تفسير الخطاب الهادئ من ترامب نحو طهران على نحو إيجابي وحقيقي، يمكن أيضاً اعتباره خطاباً استدراجياً، كالذي وجّهه إلى الإيرانيين عشية القصف الأميركي (22 يونيو) للمنشآت النووية في فوردو وأصفهان ونطنز.
تقف إيران حائرةً أمام مفترق طرق غامض ومعقّد، وبصفة خاصّة بعد التطوّرات التي تنتظرها القضية الفلسطينية والمنطقة كلّها في مرحلة ما بعد حرب غزّة. لكن بعد عقود من اتباع طريق التصعيد والتدخّل وتوظيف الأوراق لمصالح وحسابات إيرانية ضيّقة معاكسة للاستقرار والأمن في المنطقة، يؤمل أن إيران استوعبت المستجدّات، واستفادت من دروسها. وهو ما لا يمكن معرفته أو ضمانه، سوى بالممارسة العملية والسلوك الفعلي، من خلال سياسات إيران تجاه دول المنطقة والموقف من قضاياها. وهو سؤال المرحلة التي ستُحمل طهران على الإجابة عنه فعلاً لا قولاً، ربّما في أقرب ممّا تتوقع.
