عربي
دخل الإغلاق الحكومي الأميركي يومه العشرين ليصبح ثالث أطول توقف فيدرالي في تاريخ البلاد، مع استمرار الجمود بين الرئيس دونالد ترامب وأعضاء الكونغرس الديمقراطيين حول بنود تمويل الموازنة. وكان الإغلاق قد بدأ في 1 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بعدما فشلت مشروعات القوانين المقدمة من الجمهوريين والديمقراطيين في اجتياز التصويت في مجلس الشيوخ، فيما فشلت عشر محاولات متتالية لاحقاً لتمرير خطة مؤقتة لتمويل الحكومة، وسط مخاوف من أن يمتد الإغلاق إلى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
ويتركز الخلاف على تمويل إعانات قانون الرعاية الصحية، إذ يصر الديمقراطيون على استمرار دعمها لتخفيض كلفة التأمين الصحي للمواطنين، بينما يرفض الجمهوريون ذلك ضمن إطار الموازنة الجديدة. ويقول مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الجمهوري: "لا أحد في واشنطن يعرف كيف سينتهي هذا الإغلاق"، في وقت بدأت فيه المؤسسات الحكومية الكبرى استنفاد احتياطاتها المالية. وحسب "رويترز"، فإن السلطة القضائية الفيدرالية أعلنت بدء تسريح نحو 33 ألف موظف اعتباراً من اليوم الاثنين بعد نفاد التمويل التشغيلي، في أول واقعة من نوعها منذ نحو ثلاثين عاماً. كذلك حذر مدير الموازنة في إدارة ترامب، راسل فاوغت، من أن عمليات التسريح الكلية قد تتجاوز عشرة آلاف موظف فيدرالي إذا استمر التعطيل.
لعبة الدجاجة
شبّه الخبير الاقتصادي الأميركي مايكل منغر، الخلاف حول الموازنة الفيدرالية بـ"لعبة الدجاجة" الشهيرة، حيث يتجه الخصمان في هذه اللعبة بسرعة نحو بعضهما، وكل منهما ينتظر أن يتراجع الآخر أولاً قبل وقوع التصادم. وقال إن هذه الصورة تنطبق على الصراع الحالي بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، حول الموازنة الفيدرالية، الذي أدى إلى إغلاق حكومي هو الأطول منذ سنوات، بعدما فشل الكونغرس في تمرير خطة تمويل جديدة. في هذه المواجهة بين الحزبين، لا أحد يريد أن يظهر بمظهر الضعيف، لكن الخاسر الحقيقي هو الاقتصاد الأميركي. فبحسب تقرير مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، يتكبد الاقتصاد خسائر تقدر بنحو 15 مليار دولار كل أسبوع نتيجة توقف الإنفاق الفيدرالي وتعطل مئات الآلاف من الموظفين عن العمل. ويشير التقرير إلى أنه إذا استمر الإغلاق لمدة شهر كامل، فقد يؤدي ذلك إلى انخفاض إنفاق المستهلكين بنحو 30 مليار دولار، فضلاً عن أن 43 ألف وظيفة مهددة بالفقدان.
وعلى الرغم من أن بعض الخسائر يمكن تعويضها فور استئناف العمل الحكومي، فإن الأثر الأعمق يكمن في تعطل الثقة، وتأجيل قرارات الاستثمار، وتراجع وتيرة الاستهلاك، ما يجعل "اللعب بالموازنة" مقامرة مكلفة قد تنعكس على مؤشرات النمو والتوظيف في الربع الأخير من العام. ويرى الاقتصاديون أن هذه اللعبة السياسية المكلفة تحولت إلى تقليد متكرر في واشنطن، حيث يستخدم كل حزب الإغلاق ورقة ضغط لتحقيق مكاسب داخلية، بينما تُدفع الفاتورة من جيوب المواطنين ومن أموال دافعي الضرائب. وبينما تتبادل الأطراف الاتهامات، يحذر الاقتصاديون من أن استمرار الإغلاق لأسابيع أخرى قد يؤدي إلى تباطؤ في النمو واهتزاز ثقة الأسواق العالمية بالاقتصاد الأميركي، في وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى مزيد من الاستقرار، لا إلى "اللعب بالموازنة".
نزف اقتصادي
مع دخول الإغلاق الحكومي الأميركي أسبوعه الثالث، باتت قيمة الخسائر أوضح، وقال وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسنت، إن خسائر الإغلاق، التي تقدر بنحو 15 مليار دولار أسبوعياً من الناتج المحلي الإجمالي، ليست مجرد رقم على الورق، بل نزف اقتصادي حقيقي يطاول كل ولاية وكل قطاع، محذراً من أن استمرار الشلل الإداري لفترة أطول قد يضعف زخم النمو الأميركي الذي كان يسجل أفضل أداء له منذ الجائحة. وحسب "بلومبيرغ"، فإن معظم هذه الخسائر تأتي من توقف الإنفاق الحكومي الفيدرالي، الذي يمول آلاف العقود والمشروعات في قطاعات الدفاع والبنية التحتية والتعليم. وأدى الإغلاق بالفعل إلى تجميد تمويلات بقيمة تتجاوز 28 مليار دولار، تشمل مشروعات النقل العام في نيويورك وواشنطن وشيكاغو.
ومع أن الحكومة عادة ما تدفع الرواتب المتأخرة بعد انتهاء الإغلاق، إلا أن جزءاً من الخسائر يصبح دائماً، فالإنفاق الذي لم يحصل خلال فترة الإغلاق، لا يعود بكامل حجمه، والاستثمارات المتوقفة لا تستأنف بالسرعة نفسها. ولهذا يصف اقتصاديون في بنك جيه بي مورغان الوضع بأنه "نزف صامت"، حيث لا يرى الضرر فوراً، لكنه يظهر لاحقاً في ضعف مبيعات التجزئة وتراجع إيرادات الشركات الصغيرة. ومع استمرار حالة الجمود، ترتفع كلفة الاقتراض الحكومي، ويتقلص فائض الثقة الذي اعتادته الأسواق العالمية تجاه الاقتصاد الأميركي، ليتحول الإغلاق من أزمة سياسية عابرة إلى تهديد مباشر لاستقرار النمو العالمي.
القطاعات الأكثر تضرراً
وحسب "رويترز"، فإن قطاع السفر والنقل الجوي يتكبد خسائر تقارب مليار دولار أسبوعياً، بسبب تأخر صيانة المطارات وتراجع حركة الطيران الداخلي، بعد أن أجبر عدد من مراقبي الحركة الجوية وعناصر الأمن في المطارات على العمل دون أجر. وتسبب الإغلاق أيضاً في إقفال مؤقت لأكثر من 300 متنزه وطني، وإلغاء آلاف الرحلات السياحية. ووفق بيانات جمعية السفر الأميركية، يخسر قطاع السياحة والسفر في الولايات المتحدة نحو مليار دولار أسبوعياً بسبب الإغلاق الحكومي، نتيجة إقفال المتنزهات الوطنية وتأخير منح التأشيرات وتعطل عمل مئات الموظفين في المطارات والمواقع السياحية الفيدرالية.
وأوضحت الجمعية، في بيان، أن تأثير الإغلاق لم يعد مقتصراً على الوجهات السياحية الكبرى، بل امتد إلى المدن الصغيرة التي تعتمد على إنفاق الموظفين الحكوميين والزوار المحليين، مشيرة إلى أن استمرار الأزمة يهدد بفقدان آلاف الوظائف الموسمية وبتراجع عائدات السفر الداخلي بنسبة قد تصل إلى 8% خلال الربع الأخير من العام. وحذر محللون من أن قطاع العقارات والبناء بدأ يشعر بضغط مباشر نتيجة تجميد أكثر من 28 مليار دولار من تمويلات وزارة النقل والبنية التحتية، ما أدى إلى توقف مشروعات ضخمة مثل توسعة مترو سكند أفينيو في نيويورك ومشروع أنفاق هادسون بين نيوجيرسي ومانهاتن. هذه المشاريع، التي تشغل آلاف العمال والمتعاقدين، أصبحت الآن "مجمدة دون أفق زمني"، بحسب ما نقلته "بلومبيرغ" عن مسؤولي اتحادات العمال في قطاع البناء.
وأشارت الوكالة إلى أن الشركات العقارية المدرجة في مؤشر الإنشاءات التابع لمؤشر إس آند بي تراجعت أسهمها بنسبة 2.7% منذ بداية الإغلاق، مع توقعات بمزيد من الانكماش في حال استمرار التعطيل. ويعكس هذا التراجع المبكر حالة القلق في قطاعي البنية التحتية والعقارات التجارية نتيجة تجميد التمويلات الفيدرالية وتأجيل المشروعات الكبرى المرتبطة بوزارة النقل ووزارة الإسكان والتنمية الحضرية. وأوضحت الوكالة أن استمرار الإغلاق لشهر إضافي قد يدفع المؤشر إلى مزيد من التراجع يتجاوز 4% مع اتساع نطاق التوقف في المشروعات الحكومية. وأشارت صحيفة واشنطن بوست، إلى أن الإغلاق عطل إصدار بيانات رسمية أساسية مثل تقرير الوظائف ومؤشر التضخم، ما جعل المستثمرين يتداولون في أسواق الأسهم والسندات بقدر أقل من المعلومات. وبينت الصحيفة أن هذا الغموض أجبر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على تأجيل مراجعة دقيقة للسياسة النقدية لحين عودة تدفق البيانات.
وأظهرت تقارير مصرفية أن الأسواق العقارية والتجارية تواجه خطر تباطؤ إضافي نتيجة توقف برامج القروض المدعومة في وكالات حكومية مثل "فاني ماي" ووزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأميركية. وامتدت آثار الإغلاق إلى قطاع الأبحاث العلمية، بعد تجميد منح تمولها هيئات حكومية مثل المؤسسة الوطنية للعلوم (NSF) والمعاهد الوطنية للصحة (NIH)، ما أدى إلى توقف مئات المشاريع البحثية في الجامعات والمراكز الطبية الأميركية. ويؤكد خبراء الاقتصاد أن تراكم هذه التأثيرات القطاعية يجعل من الإغلاق أزمة تتجاوز الجانب السياسي إلى تآكل في البنية التحتية الاقتصادية، لأن كلفة التوقف لا تقاس بالخسائر الأسبوعية فقط، بل أيضاً بفقدان الثقة وتبديد الفرص الاستثمارية التي يصعب استعادتها حتى بعد إعادة فتح الحكومة.